الدرس اللغوي: الأسطورة للثانية باك آداب علوم إنسانية

الدرس اللغوي: الأسطورة للثانية باك آداب علوم إنسانية

تـقديــــم
إلى جانب الصورة الشعرية والرمز، تشكل الأسطورة أحد المكونات الأساسيه في البناء الفني والفكري ونمطا من أنماط التعبير الجمالي للقصيدة الحديثة، ورغم تعددها وصعوبة ضبطها، فإن هناك اتفاقا على كون الأسطورة حكايات تحكي قصص الآلهة، وتمثل طفولة العقل البشري، إذ تعمد إلى تفسير الظواهر الطبيعية كالطوفان والرعد بتصورات خيالية، توارثتها الأجيال وكأنها حقائق علمية. وقد اختلط فيها الواقع بالقوى الغيبية التي ألهها الإنسان البدائي. تتميز الأسطورة باللازمنية، لأنها غير معروفة المنشأ والتاريخ والأصل، اتخذها الشاعر المعاصر شكلا رمزيا، أو نمطا فنيا يصوغ من خلاله تجاربه الشعرية والحياتية ومشاعره ومواقفه وأفكاره ورؤاه الفنية، وجعلها وسيلة للتواصل، لا عن طريق مخاطبة الفكر، كما تفعل الفلسفة والمنطق، بل عن طريق التغلغل إلى اللاشعور، حيث تكمن رواسب المعتقدات والأفكار المشتركة.
لقد استلهم الشاعر الحديث مجموعة رموز أسطورية من الوثنية البابلية واليونانية والفينيقية والعربية، ومن المعتقدات المسيحية ومن التراث العربي ومن الفكر الإنساني عامة. من تلك الرموز والأساطير: تموز وعشتار، وأورفيوس، وطائر الفنيق، وصقر قريش، والخضر، ونادر، ومهيار، والعنقاء، والسندباد، وعمر الخيام وحبيبته عائشة والحلاج ولعازر والناصري … وهي أساطير تجسد غالبا صراع الخير والشر.
مقطعا الانطلاق
المقطع الأول: يقول السياب في قصيدته: ” سربروس في بابل “:
1 ـ ليعو سربروس في الدروبْ
2 ـ وينبش التراب عن إلهنا الدفين
3 ـ تموزنا الطعين
4 ـ يأكله: يمص عينيه إلى القرار
5 ـ عُشتار ربة الشمال والجنوبْ
6 ـ تسير في السهول والوهاد
7 ـ تسير في الدروب
8 ـ تلقُطُ منها لحم تموز إذا انتشرْ

المقطع الثاني: يقول أدونيس:
1 ـ لم يزل شهريار
2 ـ حاملا سيفه للحصاد
3 ـ حاضنا جرة الرياح وقارورة الرمادْ
4 ـ نَسيتْ شهرزادْ
5 ـ أن تُضيء الدروب الخفيهْ
6 ـ في مدار العروقْ
7 ـ نسيت أن تُضيء الشقوقْ
8 ـ بين وجه الضحيهْ
9 وخُطى شهريارْ

التحليـــــــــل:
1 ـ دور الأسطورة في بناء المعنى
أولا: مقطع السياب
يصور السياب في هذه القصيدة حالة الجفاف والبؤس والظلم والشقاء التي تعيشها بابل / بغداد آملا انبعاث جديد يعيد الحياة إلى الأرض والكائنات. ولم يقدم الشاعر تجربته بأسلوب مباشر، وإنما عن طريق أسطورة قديمة سعى من خلالها إلى إدماج التجربة الذاتية والاجتماعية في تجربة إنسانية، تتخطى حدود الزمان والمكان؛ فاستخدم السياب أسطورة سربروس، وهو كلب بثلاثة رؤوس مفتوحة الأفواه باستمرار وينفث السم من أحشائه، وله ذيل تنين، وتكسو ظهره وشعر رأسه ثعابين مرعبة، يحرس مملكة الموت أو العالم السفلي. ويواجه في النص تموز، ابن المياه العميقة، رمز الخصب، يموت كل عام، وينتقل إلى العالم السفلي المظلم، فترحل خليلته عشتار (فينوس / إلهة الحب والخصب) للبحث عنه، وتموت عاطفة الحب أثناء غيابها، وتصبح الحياة مهددة بالفناء، فيبعث ” أيا ” (الإله الأسطوري) رسولا لإنقاذها، فتسمح ” الآتو ” (إلهة الجحيم) لعشتروت أن تغتسل بماء الحياة، وتعود إلى الأرض مع حبيبها تموز حتى تُبعث الطبيعة بعودتهما
. وتأتي إلهة الحب والخصب (عشتار) لتجمع أشلاء تموز. غير أن شراسة ” سربروس تنال منها، فتنزف دما يخصب الأرض، ومن رحم موتها تنبثق حياة الإله الأسطوري ” تموز”. وهكذا يجد الشاعر أن عالمه يحتاج إلى تغيير، وهذا التغيير لا يتحقق إلا بدماء ” عُشتار “. فهذه الأسطورة إذن، تنبني على الصراع بين الموت (سربروس) والحياة (تموز)، اتخذها الشاعر أداة فنية معاصرة لتحليل مجتمعه، وتقديم رؤيا فنية إزاء قضاياه ومشكلاته.
ثانيا: مقطع أدونيس
وظف أدونيس أسطورة شهريار بعد أن تصرف في مضامينها واحتفظ بشخوصها، فشهريار ما زال مستمرا في القتل بدعوى أن شهرزاد لم تعدل سلوكه كما تنص على ذلك الأسطورة الأصلية، والتي منحها الشاعر بعدا واقعيا وإنسانيا وحضاريا من خلال تحيينها وربطها بالحياة المعاصرة. وبذلك فتح القصيدة على الإيحاء بوضع المرأة المزري في عالمنا، أو بحاجة الإنسان عموما إلى المعرفة العميقة بالأشياء، وهي المهمة الموكلة إلى شهرزاد.

2 ـ الانزياح عن الأسطورة (الأصلية)
لقد صور السياب حالة الجفاف والظلم والشقاء في العراق، ولم يحصر المشكلة في المجال الطبيعي، بل أدخلها في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فتداخل في القصيدة المحلي بالكوني، الذاتي بالجماعي، وأصبحت بؤرة أبعاد وشبكة علاقات وحقل أسئلة تستثير خيال القارئ بقوة الإيحاء واحتمالات التأويل. وفي هذا السياق مزج بين مجموعة من الأساطير، وجعل “سربروس” ينبش التراب عن تموز لا عن”برسفون”، كما في أصل الأسطورة. كما أنه وظف أسطورة “إيزيس وأوزيريس” بذكر صفاتهما ضمنيا بدل اسميهما. أما عشتار (إلهة الحصاد) فلم تسر في السهول والوهاد والدروب، وإنما التي سارت هي “إيزيس” بحثا عن “أوزيريس”، وليس عن تموز. والذي كان يدور خلفها ليبعثر ما جمعته من لحم ” أوزيريس ” هو أخوها ملك مصر، وليس “سربروس”. كما أن التي تمتعت بصفة ” ربة الشمال والجنوب ّ هي “إيزيريس”.
لقد قام الشاعر أولا باستيعاب مغزى الأسطورة الأصلية، ثم عمد، ثانيا إلى تغيير الأدوار والأفعال والأحداث، بل والتوليف بين عدة أساطير، ليعرض الموقف المعاصر، فيصهره في معادله الأسطوري، وخلق بذلك أسطورة جديدة تتمحور حول تيمة الانبعاث والتجدد.
وحين حول الأسطورة وعدلها وفق رؤيته استطاع أن يُغني معارفه وتجاربه ويكشف عن هموم الإنسان المعاصر، وفتح آفاق تخييلية لإدراك الواقع. وبذلك تلعب الأسطورة دورها في تحسيسنا برؤيا الشاعر المتمثلة في جعل الموت انتصارا للحياة.

خلاصة واستنتاج
ـ الأسطورة تعبير رمزي ومكون فني وفكري للقصيدة المعاصرة، تحفل بضروب من الخوارق والمعجزات، وتفسر الظواهر الطبيعية بتصورات خيالية، ويختلط فيها الواقع بالقوى الغيبية التي ألهها الإنسان الأول. ولهذا اتخذها الشاعر المعاصر شكلا رمزيا، ونمطا فنيا، ومجالا أرحب للخيال، ومادة خصبة للتعبير، ووعاء لاستيعاب أعمق المشاعر والمواقف والأفكار، يصوغ من خلاله تجربته الشعرية، ويعبر عن مقصديته.
ـ إن الهدف من استخدامها هو استثارة المخزون العاطفي والنفسي لها في وجدان القارئ، ليدفع به إلى الانفعال بعالم القصيدة، فهي تمثل طفولة العقل البشري. وقد وظفها الشاعر الحديث لتحقيق ذاتيته المكبوتة والتصريح بتذمره من أخطر القضايا وتقديم البديل لعالم اليوم المتناقض ورفض قوانين القهر والصراع والكشف عن خبايا نفسه من انكسارات حضارية راهنة مستعينا في ذلك كله بالرموز الفنية التي تجعل التجربة الشعرية حية تؤثر في المتلقي فتخرجه من قهر قناعه إلى تأمل جديد يحاول معه الشاعر إعادة تشكيل العالم بصورة أفضل .
ـ تمد الأسطورة الشاعر بطاقة هائلة من الإيحاءات والانزياحات والدلالات التي تخدم موقفه وأحداث عصره، فيرسم بها من الحالات والوضعيات التي يشكلها، عالما خاصا، يتميز بالدرامية والمأساوية، يتجاوز الاتجاه الأُحادي للمعنى. فهي تجعل الصورة عميقة درامية وكلية، وتخلق لحظات التوتر في وعي القارئ، نتيجة علاقته البسيطة باللغة العادية، وتمكنه من التأويل لتوليد دلالة النص وتحقيق انسجامه، وتكثيف بنية اللغة الشعرية، وتعميق دلالتها الفنية.
ـ يعدل الشاعر الأسطورة وفق رؤيته ليُغني معارفه، ويخلقها ضمن تجربة جديدة، فشعرية الأسطورة أو الرمز، تكمن في القدرة على خلقهما في إطار رؤيا جديدة، وليس في تكرارهما.
ـ قد تستدعي تجربة الشاعر الفنية والمتشعبة أكثر من أسطورة في القصيدة الواحدة، فيعمل على التوليف بينها على أساس أن تكون إحداها أسطورة مركزية، أما الأساطير الأخرى فتكون أساطير فرعية تكمل الأسطورة المركزية وتوسعها وتكثف دلالتها.
ـ يخضع الرمز الأسطوري في النص الشعري لتقنيتين بارزتين:
1 ـ الرمز الأسطوري كمعادل موضوعي للشاعر: وهنا يحتفظ كل طرف بصوته وبحضوره، إلا أنهما يتداخلان ويتحدان في التجربة.
2 ـ الرمز الأسطوري كقناع للشاعر: وهنا يذوب الشاعر في صوت الأسطورة، ويختفي وجهه وراء قناعها، فلا يبقى إلا صوتها، فيتوارى خلفها ليعبر عن الواقع الحاضر بعد أن حررت الزمن من قيده التاريخي، وفسحت المجال أمام انكشاف رؤيا الشاعر، الذي يخرق بذلك أنماط التعبير المألوفة. ويغدو القناع وسيلة درامية للتخفيف من حدة الغنائية والمباشرة في التعبير، وأداة إخفاء فنية، مما يجعل النص الجديد وليد نصوص قديمة قد يحمل بعض سماتها، ولكنه منفصل عنها بفعل تشذيب الشاعر له حتى يتناسب مع تجربته. وبما أن القناع يمس القصيدة كلها، فإنه يضمن لها التماسك والوحدة العضوية.
ـ المعين الذي يصدر عنه الشاعر لم يعد محليا، بل صار عالميا، يمتح من أساطير الأمم والشعوب والحكايات الشعبية، مما أوجب قارئا مؤهلا، واسع الاطلاع ليفك رموز الأسطورة.

ذ محمد الدواس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *