العالم غداة الحرب العالمية الأولى -ن 3-

العالم غداة الحرب العالمية الأولى

الثانية باك آداب وعلوم انسانية ولغة عربية تعليم أصيل

النموذج الثالث

مقدمة:

إذا كانت الحرب العالمية الأولى (1914م- 1918م) قد أثرت على مختلف مناطق العالم وشعوبه، فان اختلاف مواقف الدول الكبرى حول إقرار السلام وتنظيم العلاقات الدولية وحول إعادة تقسيم المستعمرات ستزيد من تعميق انعكاساتها، وهو ما انبثقت عنه عدة تحولات كبرى ميزت التطور التاريخي للعالم المعاصر.
فأين تتجلى هذه التحولات؟
وما أبعادها ودلالاتها التاريخية؟

مضمون وأبعاد مؤتمر السلام ومعاهدات الصلح:
1: اقر مؤتمر السلام معاهدات استهدفت تعزيز مصالح الدول المنتصرة:
مؤتمر السلام: انعقد مؤتمر السلام بقصر فرساي بباريس سنة 1919م بحضور ممثلي حوالي 27 دولة في غياب ممثلي الدول المنهزمة، وتميزت مجريات المؤتمر، التي دارت حول الأمن و التعويضات وإعادة ترتيب الحدود، باحتكار مجلس الأربعة الكبار آنذاك، وهي:
– الولايات المتحدة الأمريكية: يمثلها رئيسها ويلسن الذي كان يرغب في لعب دور الحكم في المؤتمر، ويسعى لفتح أسواق العالم أمام الرأسمالية الأمريكية، مع حرصه على عدم إضعاف ألمانيا خوفا من وصول الشيوعيين الألمان إلى الحكم.
– فرنسا: يمثلها رئيس مجلس الوزراء جورج كليمانصو، الذي كان يعمل على هد كيان ألمانيا حتى لا تعود لتهديد فرنسا مرة أخرى.
– بريطانيا: ويمثلها وزيرها الأول لويد جورج الذي كان يعارض موقف كليمانصو، خوفا من أن تبرز فرنسا كأول قوة في غرب أوربا.
– ايطاليا: ويمثلها وزيرها الأول اورلندو الذي كان متشبثا بضرورة وفاء الحلفاء بوعودهم لبلاده كتعويض الخسائر وتحقيق المطالب الترابية.
وبالنظر لهذه الخلافات ولتضارب المواقف بين الدول الكبرى، أسفر المؤتمر في نهايته عن مواجهة بين دول مستفيدة وأخرى متضررة ستعمل على مراجعة مقررات المؤتمر.

معاهدات الصلح:  فرضت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى على الدول المنهزمة معاهدات صلح، أجبرت على توقيعها، لذلك عرفت بـ «السلم المفروض» أو «الديكتات». وقد تضمنت هذه المعاهدات شروطا ترابية وعسكرية ومالية….جد قاسية كما يتضح من خلال الجدول التالي:

المعاهدات تاريخها الطرف المعني بها أهم شروطها
معاهدة سان جرمان 10 شتنبر 1919م الإمبراطورية
النمساوي -المجرية
– فصل النمسا عن المجر.
– اقتطاع أجزاء ترابية منهما لصالح: يوغوسلافيا وتشيكوسلوفـاكيا وإيطاليا وبولونيا ورومانيا.
– تحديد قواتهما العسكرية.
معاهدة تريانون 4 يونيو 1920م
معاهدة نويي 27 نونبر 1919م بلغاريا – اقتطاع أراضي بلغارية لصالح اليونان ويوغوسلافيا و ورومانيا.
–  تحديد قواتها العسكرية.
معاهدة سيـفر 10 غشت 1920م الإمبراطورية العثمانية – تفكيك الإمبراطورية العثمانية وتسليم جل أراضيها الأوربية لليونان.

– اقتطاع أراضي المشرق العربي وإخضاعها للانتداب الفرنسي والانجليزي.

وقد استهدفت هذه المعاهدات:
– تفكيك الإمبراطوريات التقليدية الكبرى (الإمبراطوريات: العثمانية والنمساوية – المجرية والروسية والألمانية) وبروز دول جديدة.
– هد كيان الدول المنهزمة وإضعافها بصفة نهائية.
– الاعتراف بشرعية الحركات القومية لأوربا الوسطى والشرقية.
وبذلك تكون هذه المعاهدات قد حملت بذور نزاعات مستقبلية وغذت استمرار التوتر والانفجار القومي والتطرف السياسي.
2: أبعاد معاهدة فرساي:
تعتبر معاهدة فرساي أول معاهدة وقعها الحلفاء مع الدول المنهزمة، إذ اجبر ممثلو ألمانيا على توقيعها، باعتبار ألمانيا، والدول المنهزمة الأخرى، المسؤولة الأولى عن اندلاع الحرب العالمية الأولى وعن الخسائر الناجمة عنها. وتضمنت هذه المعاهدة إجراءات ترابية قلصت من خريطة البلد داخليا (اقتطاع أراضي ألمانية لصالح فرنسا وبولونيا وبلجيكا…) وأفقدتها مجالها الاستعماري خارجيا (توزيع المستعمرات الألمانية على عدة دول)، ونصت المعاهدة كذلك على ضمانات سياسية وعسكرية ومالية (تجريد منطقة الراين من السلاح وتخفيض عدد الجنود الألمان وفرض تعويضات مالية ووضع منطقة السار الفحمية تحت تصرف عصبة الأمم). وكان ذلك كله بحجة الحفاظ على السلم.
وتتجلى الأبعاد التاريخية لمعاهدة فرساي في:
– ارتباط المعاهدة بالمصالح الفرنسية والانجليزية.
– تبرير شروط المعاهدة القاسية بمسؤولية ألمانيا في الحرب.
– اعتبار المعاهدة وصمة عار بالنسبة للشعب الألماني ومن تمة العمل على إلغائها.

خلفت الحرب العالمية الأولى تحولات سياسية كبرى:
1: أحدثت الحرب العالمية الأولى تحولات ترابية وسياسية على صعيد أوربا:
أ: على المستوى الترابي:
عرفت الخريطة السياسية لأوربا تغييرات يمكن رصدها كالتالي:
– اختفاء الإمبراطوريات التقليدية الكبرى مثل: العثمانية، النمساوية-المجرية، الروسية  والألمانية.
– بروز دول جديدة مثل بولونيا، يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا…
ب: على المستوى السياسي:
تبنى مؤتمر السلام مقترح الرئيس الأمريكي ويلسن بتشكيل هيئة دولية تعمل على حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية سميت «عصبة الأمم». وتجلت أهم أهداف هذه العصبة في:
– نبذ الدبلوماسية السرية المؤدية للنزاعات الدولية والحروب.
– تصفية الخلافات بين الدول باللجوء إلى التحكيم الدولي والمفاوضات السلمية.
– العمل على النزع التدريجي للسلاح «لضمان السلام الجماعي واحترام حقوق واستقلال الشعوب»
غير أن هذه العصبة فشلت في مهامها وظلت أداة لخدمة مصالح وأطماع الدول العظمى، ولم تستطع حل المشاكل العميقة المترتبة عن الحرب.
2: أفقدت الحرب العالمية الأولى أوربا مكانتها الاقتصادية:
أسفرت الحرب العالمية الأولى عن تراجع مكانة أوربا الاقتصادية لعدة أسباب:
– ثقل الخسائر البشرية والمادية.
– تجزئة المجال الأوربي نتيجة مخلفات معاهدات الصلح على المجال الأوربي الذي أصبح مجزءا وخاضعا للحواجز الجمركية.
– تنامي الانقسامات السياسية والتوترات الاجتماعية في أوربا بعد الحرب.
– فقدان الأسواق التقليدية بكل من أمريكا اللاتينية وروسيا بعد ثورة 1917م.
– تراكم الديون الخارجية على أوربا وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية.
إذا كانت هذه العوامل قد أدت إلى تراجع المكانة الاقتصادية لأوربا، فان ذلك مهد لظهور قوى اقتصادية جديدة منافسة تمثلت في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان.
3: تضررت المستعمرات من جراء الحرب العالمية الأولى:
يتجلى تأثير الحرب العالمية الأولى على المستعمرات من خلال ما أحدثته هذه الحرب من تغييرات في خريطة المستعمرات حيث تم توزيع مستعمرات الدول المنهزمة على الدول المنتصرة، خاصة فرنسا وانجلترا. إضافة إلى نهج الدول الأوربية لسياسة استعمارية مبنية على استغلال خيرات المستعمرات وثرواتها المادية والبشرية وحتى عند توقف المعارك في أوربا، لم تتحسن ظروف المستعمرات بل اشتد استغلالها للمساهمة في إعادة بناء الاقتصاد الأوربي  الذي دمرته الحرب. وقد خلفت هذه الوضعية آثارا سلبية على أوضاع المستعمرات اقتصاديا واجتماعيا مما أدى إلى إذكاء الوعي القومي لدى الشعوب المستعمرة، التي تكونت بها حركات مناهضة للاستعمار.

خاتمة: غيرت الحرب العالمية الأولى موازين القوى في العالم الرأسمالي، وساهمت في احتدام الصراعات الاجتماعية داخل أوربا، وفرضت تحولات سياسية عميقة استمرت طيلة فترة مابين الحربين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *