دراسة تحليلية لرواية اللص والكلاب

دراسة تحليلية لرواية اللص والكلاب

القراءة التوجيهية
لمحة تاريخية عن نشأة الرواية العربية وتطورها
ترجع نشأة الرواية العربية إلى أواخر القرن 19 مع محاولات أولى في تقليد أعمال غربية شكلا ومضمونا أنجزها أدباء من الشام، وفي مرحلة لاحقة حاول آخرون من الشام ومصر وغيرهما تجاوز تقليد الرواية الغربية إلى تأسيس خطاب سردي يعنى بمعالجة قضايا ترتبط بالمجتمعات العربية، وقد كانت محاولات ينقصها الإتقان والنضج الفني. ويرجع بعض النقاد الفضل إلى محمد حسين هيكل صاحب رواية “زينب” 1914 في استواء الرواية العربية ونضجها الفني، غير أن دراسات حديثة كشفت وجود بعض الأعمال الناضجة سبقت رواية “زينب”، منها “الأجنحة المتكسرة” لجبران خليل جبران 1912، ورواية “بديعة وفؤاد” لعفيفة كرم 1906.
وقد تطور فن الرواية بدءا من ثلاثينيات القرن العشرين على يد رواد آخرين أسهموا بدور كبير في جعل الرواية فنا متميزا من فنون الأدب العربي نذكر منهم: محمود تيمور وتوفيق الحكيم وطه حسين ويحيى حقي وغيرهم، ثم جاء الجيل الثاني الذي تفرغ كليا لفن القصة والرواية فأبدع فيهما وعلى يديه احتلت الرواية المكانة الأولى بين أنواع الأدب، فصارت الرواية متداولة بشكل كبير بين القراء، وهو جيل نجيب محفوظ ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس وفتحي غانم…وقد تميزت الكتابة الروائية عند هؤلاء بطابع جمع بين التقليد والجدة.
ومع جيل الستينيات ستشهد الرواية العربية تحولات كبرى في طرح القضايا الاجتماعية والسياسية والحضارية للمجتمعات العربية، كما أصبحت الرواية تستفيد من التقنيات الفنية الحديثة في الرواية العالمية، وفي هذه الفترة ستبرز أسماء عديدة في مختلف البلاد العربية، نذكر من بينها: جمال الغيطاني ويوسف القعيد وجبرا إبراهيم جبرا وحنا مينه وعبد الرحمن منيف ومحمد زفزاف ومحمد برادة…
صاحب النص:
نجيب محفوظ كاتب مصري معروف ولد سنة 1912م، بحي الجمالية في القاهرة، وهي منطقة شعبية وصفها في الكثير من رواياته، منها ” خان الخليلي”، نشأ في أسرة متوسطة، درس الفلسفة بكلية الآداب وتخرج منها سنة 1934م ، وحصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1988م بسبب دوره الرائد في ازدهار الفن الروائي العربي بصفة خاصة والعالمي بصفة عامة، وقد ترجمت قصصه ورواياته إلى العديد من اللغات، ومن أشهر أعماله الروائية نذكر: همس الجنون، كفاح طيبة، بداية ونهاية، قصر الشوك، ثرثرة فوق النيل، خمارة القط الأسود، حكاية بلا بداية ونهاية، أولاد حارتنا…
وما يهمنا أكتر في حياته هو أنه عايش ثورة مصر سنة 1952م، واستوعب التحولات الاجتماعية والسياسية وأثرها على نفسية الشعب المصري، والرواية قيد التحليل رواية واقعية ينتقد من خلالها نجيب محفوظ واقع مصر الجديد بعد ثورة مصر 1952م
عنوان المؤلف:
العنوان هو أول خطاب لفظي يواجه القارئ، ويوجه أفق انتظاره للنص، بل يلخصه له في أحيان كثيرة، لذا كان من البد أن نقف على عنوان المؤلف” اللص والكلاب” وقفة تجعلنا نقتحم النص بفرضيات سنتأكد من صوابها
يتألف عنوان النص تركيبيا من لفظتين هما “اللص” و”الكلاب” بينهما حرف عطف الواو، الذي يؤكد وجود علاقة بينهما، أما دلاليا فتوحي لفظة اللص إلى ذلك الشخص الخارج عن القانون والمستولي على ممتلكات الغير والذي يرمز خلافا للكلاب للخيانة والغدر، بينما الكلاب ترمز للإخلاص والأمانة والوفاء لدرجة ربط الوفاء بهذا الحيوان الأليف فهل يعكس لص الرواية وكلاب الرواية هذه الدلالات؟
إذا ما نحن حاولنا ربط العنوان بأحداث الرواية أمكن لنا استنتاج أن لص العنوان هو سعيد مهران، لكن بصفات الوفاء والإخلاص لأنه أخلص لمبادئ الثورة ،أما الكلاب فهي إشارة إلى كلاب إنسانية، مجسدة في شخص كل من نبوية، وعليش، ورؤوف علوان، لكن بصفات الغدر والخيانة، لأن كل هذه الشخصيات قد مارست الغدر والخيانة في وجه سعيد مهران، الشيء الذي جعل أحداث الرواية تميل إلى التراجيديا أو إلى دراما الروايات البوليسية
القراءة التحليلية
– المنظور الأول: تتبع الحدث
* المتن الحكائي للرواية:
تحكي رواية اللص والكلاب حكاية مثقف بسيط يدعى سعيد مهران، دخل السجن وخرج منه في عيد الثورة، بعد أن قضى فيه أربع سنوات غدرا، دون أن يجد أحدا في انتظاره، ويقرر بعدها الذهاب إلى منزل عليش لاسترجاع ابنته سناء وماله وكتبه، ويفشل في ذلك وتسود الدنيا في وجهه أكثر عندما جفلت منه ابنته سناء ورفضت معانقته لأنها لا تعرفه. وللتخفيف من حدة الانفعال وإحياء لبعض ذكريات ماضيه قرر الاستقرار مؤقتا برباط علي الجنيدي، الذي قضى عنده ليلته، ولكن روحانية المكان وطقوسه الخاصة وأجوبة علي الجنيدي العامة والمغرقة في الروحانيات، جعلت سعيدا لا يرتاح كثيرا للإقامة بهذا المكان المليء بالمنشدين والمريدين، لذلك قرر اللقاء بأستاذه رؤوف علوان ذلك الصحفي الناجح الذي صار من الأغنياء قصد تشغيله معه في جريدة الزهرة، فاتجه بداية إلى مقر جريدة الزهرة، ثم بعد ذلك نحو فيلته، وهناك سيفاجأ سعيد مهران بفكر جديد لرؤوف علوان يقدس المال ولا يكترث للمبادئ والقيم النضالية ، كما سيفاجأ برغبته في إنهاء علاقته به خاصة عندما رفض طلب تشغيله وأعطاه مبلغا من المال ليدير شؤون حياته بمفرده بعيدا عنه، مما اضطر سعيد مهران إلى التفكير في الانتقام منه، فقرر العودة إلى فيلته في تلك الليلة لسرقتها لكنه وجد رؤوف علوان في انتظاره لأنه عليم بأفكار تلميذه، فهدده بالسجن واستعاد منه النقود وطرده من البيت.
وخرج سعيد ليلتها مهزوما ومشاعر الحقد والانتقام تغلي في دواخله، فلقد اكتمل عقد الخيانة وباكتماله تبدأ رحلة الانتقام، وتسودُّ الدنيا في وجهه ولا يجد ملاذا أفضل من مقهى المعلم طرزان، الذي لم يتردد لحظة في إهدائه مسدسا سيكون له دور كبير في مسلسل الانتقام، وفي ذات المكان سيلتقي بنور التي بدورها ولدافع حبها الشديد له مذ كان حارسا لعمارة الطلبة، ستوفر له المأوى والطعام والشراب والجرائد والسيارة، ولما توفرت له شروط الانتقام” المسدس والسيارة” ذهب مباشرة لقتل عليش في منزله لكنه أطلق النار على حسين شعبان الرجل البريء الذي اكترى شقة عليش بعد رحيله، لكن سعيد مهران لم ينتبه لذلك ولم يعرف خطأه حتى اطلع على الجرائد
وفي خضم هذه الأحداث استغلت جريدة الزهرة الأوضاع وبدأت بقلم رؤوف علوان تبالغ في وصف جرائم سعيد مهران وتنعته بالمجرم الخطير الذي يقتل بدون وعي، الشيء الذي سيشعل نار الغضب في قلب سعيد الذي سيقرر قتل رؤوف خاصة بعدما ساعدته نور في الحصول على بذلة عسكرية، فيستهل انتقامه بالقبض على المعلم بياظة بهدف معرفة الاقامة الجديدة لعليش ونبوية لكن دون جدوى فعاد إلى بيت نور ثم ارتدى بذلته العسكرية، واستقل سيارة أجرة ثم اكترى قاربا صغيرا ليتجه صوب قصر رؤوف علوان ، للانتقام منه وفور نزوله من سيارته أطلق سعيد مهران عليه النار لكن رصاصات الحراس السريعة والكثيرة وإصابته بإحداها جعلته يخطئ هدفه، فأصاب بوابا بريئا بدل غريمه، وأثناء اطلاعه على الجرائد التي أمدته بها نور تعرف على خطئه فشعر بندم شديد، واسودت الدنيا في وجهه مع استمرار جريدة الزهرة في تحريض الرأي العام ضده ، إلى أن انتهت حياته في مقبرة بعد أن حاصرته الشرطة وأطلقت عليه الرصاص من كل جانب فاستسلم بلا مبالاة ، وحلت بالعالم حال من الغرابة والدهشة.
* الخطاطة السردية
الوضعية الأولية خروج سعيد مهران من السجن ومباشرة وتجميع المعطيات التي زادت من تأجيج نار الانتقام نتيجة الغدر والخيانة التي تلقاها من أقرب الناس إليه، مما جعله يتخذ قرار الانتقام، والبداية كانت مع رؤوف بنية سرقته، إلا أنه أحبط محاولته ورده خائبا
* سيرورات التحول
الحدث الطارئ: شروع سعيد في التخطيط للإنتقام من عليش بطريقة عملية ومدروسة، إلا أن الفشل كان حليفه
تطور الحدث: اختباء سعيد عن الأنظار أمام غليان الرأي العام، واسترجاعه لأنفاسه بعد فشل عمليته الانتقامية الأولى والإعداد ثم القيام بخطة انتقامية جديدة موجهة نحو رؤوف، والنتيجة فشل العملية الانتقامية الجديدة التي كانت ناجحة على مستوى الإعداد، نتيجة التسرع والتهور. انتهت بتأزيم وضع سعيد ومطاردته من قبل الشرطة
الوضعية النهائية تضييق الشرطة الخناق على سعيد ومحاصرتهم له في المقبرة من كل الجوانب، ثم استسلامه بلا مبالاة بعد مقاومة يائسة
* الحبكة:
الحبكة هي النسيج الذي يرصد الأحداث في اتصالها وانفصالها واتجاهاتها، وتنقسم إلى تقليدية تتوالى فيها الأحداث بشكل متسلسل، وأخرى مفككة لا تخضع لتسلسل منطقي، ويبدو أن الحبكة المعتمدة في رواية اللص والكلاب، تقليدية بدليل قيامها على الأسباب المؤدية إلى النتائج، فكل حدث فيها يؤدي إلى حدث آخر وهكذا تقوم الأحداث على مجموعة من الأسباب، فالخيانة التي تعرض لها سعيد دفعته للانتقام واكتراء حسين شعبان لمنزل عليش جعلت الرصاصة تصيبه، ووشاية عليش ونبوية جعلت سعيدا يدخل السجن….
* الرهان:
ينقسم الرهان دائما إلى رهان المحتويات ويتأسس حول الشخصيات والموضوعات المتنازع عليها، ورهان الخطاب ويتأسس على علاقة المؤلف مع المتلقي أو علاقة النص مع المتلقي، وإذا عدنا إلى مثن اللص والكلاب وجدنا أن رهان المحتوى الذي له علاقة بالشخصيات يتراوح بين الفشل والنجاح، فسعيد مهران يفشل في تحقيق رهانه الكلي المتمثل في تحقيق مشروعه النضالي وتحقيق العدالة الاجتماعية، ويتراجع عن هذا الرهان إلى رهان آخر جزئي وهو الانتقام من خصومه دون أن يحققه، بخلاف غريمه رؤوف علوان الذي استطاع تحقيق رهانه المتجسد في الحصول على الثروة وإن كانت الطريقة وصولية انتهازية. أما رهان الخطاب أو النص ككل فيمكن حصره في كون المحاولات الفردية لتغير الواقع مآلها الفشل، فلا يمكن لفرد مهما أوتي من ذكاء وعزيمة وإصرار أن يغير واقع أمة مهما كان الواقع مأساويا وظالما، فالتضحيات يجب أن تكون جماعية لكي ينتصر الخير على الشر، والحق على الباطل، والعدل على الظلم.
* دلالات وأبعاد الحدث: إن كل الإشارات التاريخية التي وردت داخل مؤلف اللص والكلاب، تشير إلى أن الرواية لها علاقة بواقع مصر السياسي والاجتماعي لما بعد الثورة المصرية سنة1952م ، ومن هذا المنطلق أمكن لنا أن نقول ومن خلال الأحداث التي وقعت لسعيد مهران والذي وجد نفسه فجأة يعاني من تفكك أسري وعدم استقرار نفسي واجتماعي ، أن رواية اللص والكلاب رواية تستهدف بأبعادها كشف واقع مصري يعاني معاناة اجتماعية ونفسية نتيجة السلوك الانتهازي لبعض الأفراد الذين غيروا قناعاتهم النضالية ومواقفهم استجابة لمتغيرات نهاية مرحلة الخمسينيات والستينيات ونتيجة لإرضاء مآربهم الشخصية، ودمروا بمواقفهم المتغيرة أسرا كثيرة وحكموا على الشعب بشكل عام بالفقر والجوع والقلق الوجودي والروحي.
ب- المنظور الثاني: تقويم القوى الفاعلة
1- جرد القوى الفاعلة: القوى الفاعلة لا تنحصر في الشخصيات بل تشمل كذلك المؤسسات والأفكار والقيم والمشاعر، وكل ما يساهم في تحريك الأحداث، وبالعودة إلى رواية اللص والكلاب أمكننا جرد القوى الفاعلة كالتالي:
أ- الشخصيات: تنقسم شخصيات اللص والكلاب إلى رئيسية وثانوية وعابرة، سنحاول تقديم خصائصها ومواصفاتها بناء على الجرد الآتي بدء بالرئيسية وانتهاء بالعابرة.
سعيد مهران: شاب مصري مثقف، تحمل مسؤولية أسرته منذ الصغر، توفي أبوه وبعده أمه، مؤمن بمبادئ المساواة والعدل والكرامة والإنصاف، مناصر للمظلومين والكادحين، ناضل من أجل تحقيق مبادئ الاشتراكية على الواقع حريص على الانتقام من نبوية وعليش اللذان غدرا به وأدخلاه السجن، ومن رؤوف الذي تنكر لمبادئ الحزب والنضال، يعاني من فراغ روحي وقلق وجودي وغربة وضياع، أسير الحقد والكره والانتقام. رمز للكادحين والفقراء المناضلين من أجل القيم.
رؤوف علوان: طالب قروي، مناضل مؤمن بالتغير، له قدرة على التأثير بأسلوبه في محاوريه، أكمل دراسته ثم تحول إلى صحفي ناجح، انتهز الظروف السياسية الجديدة فتحول إلى قلم برجوازي مأجور، تنكر لأصوله الكادحة، ولطبقته، متطلع بشغف لحياة الارستقراطية، أكلا وملبسا ومسكنا، يشوه الحقائق ويؤلب الرأي العام ضد سعيد ويصوره مجرما خطيرا. رمز للبرجوازية القاسية على الفقراء.
عليش: غريم سعيد مهران – المستفيد من سجنه والمستولي على زوجته وابنته وجميع ممتلكاته – متحايل كبير – انتهازي خائف على مصيره الشخصي ومتخذ لجميع الاحتياطات حتى لا ينال منه خصمه سعيد مهران. رمز لخيانة الصداقة.
الشيخ علي الجنيدي: زاهد متصوف، له انشغالات روحية بعيدة عن الواقع المعيش، يحاول تبرير الواقع بالغيبيات لأنه مستفيد من الوضع السياسي السائد – يشكل نوعا من الاطمئنان النفسي والروحي لسعيد مهران – يلجأ إليه دائما وقت الشدة. رمز للتصوف والفكر الديني.
نـــــــــور: عنصر مساعد للشخصية الرئيسة سعيد مهران – مومس – قست عليها الحياة الاجتماعية – متوسطة الجمال – مستسلمة لرغبات الزبناء – مغرمة بسعيد مهران وترغب في زواجه – وفرت له الطعام والمسكن والجرائد والسيارة. رمز للإباحية والقيم المفقودة.
المعلم طرزان: صاحب مقهى – صديق سعيد، وفر له المسدس وأمده بمعلومات هامة ساعدته على الاختفاء عن أنظار الشرطة. رمز للصداقة الصادقة.
نبوية: زوجة سعيد السابقة، وأم سناء أحبها سعيد بصدق وظل يحلم بالاستقرار الدائم إلى جوارها مع ابنته سناء بعد خروجه من السجن، لكنها تنكرت له وارتبطت بعليش. رمز للخيانة الزوجية.
سناء: موضوع صراع بين الأب الطبيعي سعيد مهران وزوج الأم والمحتضن عليش، لم تتعرف على أبيها، تبدو خائفة مضطربة أثناء اللقاء الذي جمعها بابيها الحقيقي سعيد مهران. رمز للبراءة المغتصبة.
المعلم بياضة: زميل سابق لسعيد وصديق وشريك عليش، خان صديقه الأول، وكاد أن يؤدي ثمن هذه الخيانة أثناء لقائه بسعيد مهران الباحث عن المكان الجديد الذي استقر به عليش.
ب – المؤسسات: في الرواية عدة مؤسسات فاعلة في أحداث الرواية ومؤثرة على شخصياتها نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : السجن باعتباره أول مكان يؤطر فضاء الرواية، أثناء تواجده به حصلت الخيانة، وتحققت أهداف الانتهازيين، وهناك الصحافة التي أثرت في جهاز الشرطة والرأي العام المنقسم إلى معارض أو مناصر لسعيد مهران، ثم هناك المدرسة والجامعة التي شكلت نعمة لرؤوف علوان ومصدر وعي شقي لسعيد مهران.
ج- الجمادات : متنوعة بين الحارة والمقهى ومنزل نور و فيلا رؤوف علوان والجبل والمقبرة والشوارع وعمارة سكن الطلبة ورباط الجنيدي، والتي تركت آثارها القوية أو الضعيفة في نفسيات شخصيات الرواية، فهي تحتضن الذكريات حلوها ومرها، لذلك تم استرجاعها أحيانا، أو محاولة تناسيها كما هو الشأن بالنسبة لرؤوف علوان و عليش المتنقل من منزل لآخر خوفا على حياته من انتقام سعيد مهران.
د- القيم والمشاعر: تتنوع هذه القيم والمشاعر بين القناعة والاستسلام للأمر الواقع ويمثلها علي الجنيدي، والانحراف والخروج عن القوانين، ويتجسد ذلك في شخصية المومس نور والمتاجرين في الممنوعات من ذوي السوابق كطرزان وغيره، ثم الرغبة في الغنى والثراء على حساب القيم الأصلية والانتماء الطبقي، ويبرز ذلك جليا في التسلط الطبقي لرؤوف علوان، في مقابل الالتزام الإيديولوجي والإيمان الصادق بالعنف الثوري المجسد في شخصية سعيد مهران، أما عليش فيمثل أعلى درجات الشخصية الانتهازية التي لم تكتف بسرقة أموال الصديق بل ا استولت على زوجته وابنته وكل ممتلكاته، مما جعل مسألة الانتقام منه ونبوية تحتل مركز الاهتمام لدى سعيد مهران.
ولعل أهم الشخصيات التي عاشت عدة مشاعر متناقصة ومتضاربة وجارفة هي شخصية سعيد مهران، لأنه عاش خيانة مزدوجة، الأولى اجتماعية من زوجته وصديقه عليش، والثانية إيديولوجية ثقافية من طرف أستاذه وموجهه رؤوف علوان، مما جعله يحس بالمهانة والخزي والعار أمام أسرته وأصدقائه وذاته، فقرر الانتقام من جميع الخونة.
وهكذا يظل جرد القوى الفاعلة – شخصية كانت أو مؤسسات أو جمادات أو حيوانات أو قيما ومشاعر – الحاملة لحركة الفعل التي تمارسها الشخصيات في الرواية أساسية ومهمة في التحليل، لأنها تساهم بطريقة ما من الطرق في الحدث

البنية العاملية

أ- النموذج العاملي باعتياره نسقا
يمكن النظر إلى هذا النموذج باعتباره أزواجا:
-المرسل / المرسل إليه (أو محور التواصل): دور المرسل (الحرية) هو إقناع العامل الذات، أما المرسل إليه (المروءة) فهو يشكل العامل المستفيد من الموضوع (الانتقام)، ولهذا فإن محفله يكون في النهاية.
-الذات / الموضوع (أو محورالرغبة): يشكل هذا الزوج قطب الرحى في النموذج العاملي، فالذات (سعيد مهران) ترغب في موضوع القيمة (الانتقام)، ويكون هذا بعد إقناع العامل الذات من قبل العامل المرسل.
-المساعد/ المعاكس (أو ما يشكل مقولة الصراع): نلاحظ أن العوامل المعاكسة أعظم من العوامل المساعدة في النص، فهي تقوم ببرامج مضادة للبرنامج السردي الأساس الذي يقوم به العامل الذات(سعيد مهران)، تعرقل بذلك مسار بحثه عن موضوع القيمة، ومادام العامل الذات يحمل في نفسه عاملا معاكسا لنقصان أهليته (غياب التنظيم)، فإن المسار السردي بأكمله سيكون فاشلا، ولن يحصل العامل الذات على موضوع القيمة نهاية بالضرورة “أنا روحك التي ضحيت بها ولكن ينقصني التنظيم على حد تعبيرك.. ومأساتي الحقيقية أنني رغم تأييد الملايين أجدني ملقى في وحدة بلا نصير، ضيع غير معقول”ص110.
ج-المنظور الثالث: الكشف عن البعد النفسي
إن قراءتنا لرواية اللص والكلاب من المنظور النفسي، تنتهي بنا إلى إدراك ما تخفيه الشخصيات من مشاعر وأحاسيس وعواطف متوترة، نستنتج منها عمق الأزمة الإنسانية النفسية التي يعاني منها المجتمع المصري والعربي في خمسينيات وستينيات القرن 20، الذي قدر عليه أن يعيش في زمن غريب لا يأنس له ولا يشعر معه بالاطمئنان ، إن مؤلف اللص والكلاب بهذا المعنى رواية واقعية نقدية رمزية تكشف عن الحالة النفسية للمجتمع من خلال التعمق في شخصية سعيد مهران الذي تعرض لخيانات اجتماعية وسياسية خلقت منه نموذجا بشريا دائم القلق والحيرة ، فمن يكون سعيد مهران نفسيا؟ وما علاقته بالإنسان العربي؟
لقد قدمت رواية اللص والكلاب شخصية سعيد مهران ذلك الشاب الفقير الذي تعرض لأنواع من الحرمان والقهر بمواصفات نفسية جعلت منه نموذجا إنسانيا عربيا يعاني من توتر نفسي وعاطفي وقلق وغربة سواء تجاه من خانوه” نبوية، عليش، رؤوف” أو أحبوه” نور، طرزان، فئة الفقراء” أو إزاء الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، فعن طريق استرجاع شريط الألم ” وفاة والده، أمه، خيانة الزوجة الصديق، الأستاذ،” نفهم سر جنون سعيد مهران، فجنونه أزمة نفسية ولدها الإنسان الذي خان شعبه وتنكر للمبادئ، وأزمة ولدها الصديق الذي خان الصداقة، وولدتها الزوجة التي نسيت الوفاء…، لذلك لا غرابة أن يعيش سعيد مهران فراغا عاطفيا، وروحانيا، وغربة، وضياعا، وقلقا، وتوترا، وهذه صورة مصغرة لأسر كثيرة تشارك سعيد هذه المعاناة سواء كان تواجدها داخل أم خارج المؤلف.
وهي أزمة نفسية ألقت بثقلها على العلاقات العاطفية بين الأفراد، بحيث أصبحت أكثر مأساوية، فعلاقات الحب التي يمثلها في المؤلف حب سعيد لابنته وحب نور لسعيد، تتراجع لتفسح المجال للكراهية والحقد، فتكون النتيجة قتل ومطاردة ورغبة في الانتقام، كما أن علاقة الوفاء التي يجسدها في المؤلف وفاء طرزان و نور لسعيد ، قد تراجعت بدورها لتحل محلها الخيانة بأبعادها الاجتماعية والسياسية. بل حتى العلاقة الروحانية بين الإنسان وربه تأثرت في وسط هذا المجتمع المادي ودليل ذلك علاقة سعيد برباط علي الجنيدي.
هكذا يبدو العالم النفسي كئيبا وما يزيد من كآبته حضور تيمات الظلم والكره والخيانة، خيانة وظلم وكره أقرب وأعز الناس إليك أو من كان من المفروض أن يحبوا، وتيمة الحب كذلك لكن بوجه جديد يسبب لصاحبه الأحزان أكثر من الأفراح، حب سعيد لسناء الجريح، وحب نور لسعيد الذي فات زمنه.
هكذا يبدو واضحا بأن نجيب محفوظ قد تعمد التركيز على نفسية بطل هذه الرواية لغاية كشف التحولات الصعبة التي يعيشها الإنسان المصري والعربي وتداعياتها على نفسية الفرد خاصة الفقير الكادح.
د- المنظور الرابع : الكشف عن البعد الاجتماعي
اشتهر نجيب محفوظ في مجمل رواياته، بتصوير الواقع المصري الاجتماعي تصويرا تظهر من خلاله الصورة الحقيقية للبنية الاجتماعية المصرية، كما تبدو من خلاله معاناة الإنسان المصري الاجتماعية، فما هي طبيعة المجتمع الذي تتحدث عنه رواية اللص والكلاب؟
تصور رواية اللص والكلاب واقعيا اجتماعيا متناقضا أفرزته التحولات السياسية في خمسينيات القرن20 تختصره فئتان، فئة الأغنياء التي يمثلها رؤوف علوان والتي تمتلك كل شيء، وفئة الفقراء التي يمثلها سعيد مهران والتي تفتقر لأبسط متطلبات العيش الكريم، وهو تناقض اجتماعي سيؤدي إلى ظهور أمراض اجتماعية خطيرة، كالسرقة التي اعتبرها سعيد مهران وسيلة لإعادة حق الفقراء، فمن السارق ومن المسروق؟، والمتاجرة في المخدرات والذي يمارس ذلك هو المعلم طرزان، ناهيك عن الدعارة التي تمارسها نور، ولا تتوقف تداعيات هذا التناقض في ظهور أمراض اجتماعية فقط، بل في ممارسات أخرى أكتر تعقيدا كالخيانة والنفاق والانتهازية التي ذهب ضحيتها سعيد مهران.
هكذا يبدو واضحا أن رواية اللص والكلاب رواية نقدية تنتقد وبشدة الواقع الاجتماعي الذي أفرزته الثورة والذي عمق من معاناة الطبقة الفقيرة وزاد من همومها إلى درجة أن أسرا كثيرة قد تفككت علاقاتها نتيجة الفقر والحاجة، واضطرت إلى بيع شرفها ومبادئها أو النضال من أجل تحققها إلى آخر أنفاس الحياة، فمن يتحمل مسؤولية هذا الواقع الجديد؟
د- المنظورالخامس: تعرف الأسلوب:
يتميز أسلوب نجيب محفوظ في رواية اللص والكلاب بالاقتراب من لغة البساطة والوضوح والدقة في الوصف دونما اهتمام بالمحسنات البديعية، مراعاة للغة العصر التي تأثرت بلغة الصحافة والطباعة وبالمثاقفة، كما تقترب من لغة الحياة اليومية من خلال اعتماد لغة حية لها علاقة بالشارع المصري، بهذا يؤسس نجيب محفوظ لتجربة جديدة تمزج بين اللغة العربية الفصحى واللغة العامية في محاولة لصبر أغوار الإنسان العربي وكشف همومه النفسية والاجتماعية، كما تتميز لغة الرواية بتداخل خيوط السرد، الذي يتداخل فيه صوت الكاتب بصوت السارد والشخصية، الشيء الذي يؤكد بأن الكاتب قد سرد الأحداث بالاعتماد على وضعيات سردية متعددة، من أجل الإحاطة بهموم الشخصية من كل جوانبها، كما تتميز اللغة كذلك باعتماد حقول معجمية كثيرة ” حقل الحرية، حقل الموت، حقل الدين، حقل الجسد، حقل السجن، ….” وباعتماد لغة الوصف ” وصف الشخصيات، الأماكن..” واعتماد الحوار بنوعيه الخارجي والداخلي
أ ـ مستويات اللغة:
إن استقراءنا للغات التي تتحدثها الشخصيات في الرواية يجعلنا نميل إلى وضعها ضمن المجالات التالية:
ـ لغة التمرد والغضب: وهي لغة “سعيد مهران” وهي تعكس الغربة التي يعاني منها في الواقع الاجتماعي الذي ماتت فيه القيم الإيجابية، وطغى فيه الظلم والفساد الاجتماعي.
ـ لغة تبريرية: وهي لغة الشخصيات التي تخلت عن مواقفها السابقة، لتعيش واقعها الجديد. وهي لغة “رؤوف علوان” ونصح بها صديقه “سعيد مهران” عندما زاره بعد خروجه من السجن. وتتعرض هذه اللغة للسخرية داخل الرواية، سواء من خلال ملفوظات “سعيد” أو “نور” أو “طرزان”.
ـ لغة الوحدة والمعاناة: وهي لغة “نور” التي لا تتمنى سوى الشعور بالاطمئنان والهناء في هذا العالم الذي يشعرها بالضياع.
ـ لغة التصوف: وهي لغة “الشيخ علي الجنيدي” لا تستطيع هذه اللغة أن تتخذ موقفا ظاهرا من الظلم الذي يتعرض له سعيد مهران والشخصيات الفقيرة البئيسة التي تؤمن بقضيته.
هـ- المنظور السادس: استنتاج البنية
بنية الزمان: تعرض الرواية نموذجا للفئة الاجتماعية الفقيرة في مصر، وتتلاحق الأحداث المتعلقة بها بطريقة تتابعية تذكرنا بالرواية التقليدية، فهي تنطلق من لحظة الخروج من السجن والرغبة في الانتقام للشرف لتنتهي بمحاصرة البطل بالمقبرة والقضاء عليه. لكن هذا الانطباع الأولي سرعان ما يتلاشى عندما نتأمل في التركيب الفني للرواية، فالزمن فيها أداة تشخص بقوة أسئلة الفرد في هذا الواقع القهري الذي لا يتلاءم مع طموحاته. ولأن هذه الرواية تنتمي إلى الواقعية النقدية الرمزية، وهي واقعية تنطلق من انعكاس العالم في مرايا الذات، فإنها ركزت على الزمن النفسي وجعلته نافذة تلتقط من خلالها مشاكله وهمومه. وقد برع نجيب محفوظ في هذا الجانب المتعلق بالزمن الشخصي (النفسي)؛ فهو يغمض عينيه على الأعوام الطويلة في عالم الواقع ليلتفت إلى اللحظات المهمة والدقيقة في حياة الشخصية، وترى الناقدة سيزا قاسم بأن “الزمن النفسي مرتبط في الحقيقة بالشخصية، لا بالزمن حيث أن الذات أخذت محل الصدارة، فقد الزمن معناه الموضوعي وأصبح منسوجا في خيوط الحياة النفسية” [بناء الرواية دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، ص: 73].
ويتمظهر الزمن النفسي في الرواية من خلال حدة الأزمة التي يعيشها البطل، وما يتولد في النفس بسببها من إحباط وشعور بالخيبة وعزلة. ومنذ افتتاحية الرواية نجد الزمن النفسي حاضرا، فبمجرد تخطي البطل لأزمة السجن، يجد نفسه في قلب أزمة أخرى تتمثل في خيانة زوجته له وزواجها من مساعده عليش، وعندما لم يجد من يهتم به قرر التوجه إلى صديقه رؤوف علوان، لكنه عندما التقى به وقف على خيانة أخرى لا تقل وقاحة عن الأولى، فبدا العالم في نظر البطل متأزما ومتدهور القيم وفارغ الروح. ومع تقدم الحكاية في الرواية وتعقد لحظاتها حيث علاقة الفرد بالعالم تزداد شراسة يبرز التأثير الفعال للزمن النفسي. ويكفي أن نقف عند متوالية سردية وردت على لسان السارد في الفصل الحادي عشر، وهو فصل يغلب عليه الاسترجاع السردي، نجد البطل يتذكر أمه والكيفية التي ماتت بها، فقد أصيبت بنزيف حاد، فحملها إلى المستشفى، مؤمنا بأهمية الإنسان ومركزيته في التعاليم التي تشبع بها، لكنه عندما ولج باب المستشفى لم يجد من يقاسمه الحسرة ويتعاطف مع والدته المريضة غير ممرضة أجنبية؛ وهو ما فجر غضبه واحتجاجه بشدة، وماتت والدته بعد شهر من هذا الحادث؛ يقول: “وجدت نفسك وأمك في قاعة استقبال عند المدخل فخيمة بدرجة لم تجر لك في خيال، وبدا المكان كله وكأنما يأمرك بالابتعاد ولكنك كنت في مسيس الحاجة إلى إسعاف، إسعاف سريع. ودلوه على الطبيب الشهير وهو خارج من غرفة فجرى إليه بجلبابه وصندله صائحا: أمي .. الدم .. فتفحصه الرجل بعينين زجاجيتين مستنكرا ومد بصره إلى حيث استلقت الأم على مقعد وثير بثوب كالسخام …” [اللص والكلاب: 89 -90]. إذن فالرواية تتعين عملا إبداعيا كبيرا، فهي تعبر أولا عن السمة الإشكالية لبنية الزمن الحديث وبنية الإنسان الذي يعيش فيه، وتعطي ثانيا تعبيرا إشكاليا يطرح ما شاء من الأسئلة ويقذف بالإجابات في فضاء ملتبس على حد تعبير فيصل دراج [نظرية الرواية والرواية العربية، ص: 18].
بنية المكان: يكتسي الفضاء في هذه الرواية ـ التي تمثل تحولا فنيا في مسار نجيب محفوظ الإبداعي بالتركيز على الحياة الشخصية للفرد ومواجهتها للعالم ـ أهمية كبيرة. لا يحضر الفضاء في الرواية باعتباره إطارا تزيينيا يؤثث به الروائي عالم الرواية، بل هو مكون جوهري وأساسي ينطق بمقصدية الروائي، ويمكن من فتح مغاليق الذات وإظهار ما يتفاعل فيها من أنواع الشعور بالمعاناة والوحدة والعزلة. ويقل الوصف المتعلق بالمكان في الرواية، ويحضر بكثرة في تحديد ملامح الشخصيات الخارجية والداخلية؛ وهذه السمة الأسلوبية تتحقق في مجمل الأعمال الإبداعية الكبيرة التي نحت منحى واقعيا في التعبير عن حياة الفرد. ونمثل للفضاء في الرواية بما يلي:
ـ فضاء السجن: تفتتح به الرواية، يغادره سعيد مهران بعد ا، قضى به أربع سنوات، هو فضاء عزلة وحصار فيه يفقد الإنسان حريته.
ـ فضاء عطفة الصيرفي: يحمل إلى البطل مشاعر مزدوجة ومتناقضة، ففيه ألقي القبض عليه نتيجة السرقة. ويحمل إليه كذلك ذكرى جميلة تتصل بزواجه من نبوية ؛ قال: ” وقبل ذلك بعام خرجت من العطفة تحمل دقيق العيد والأخرى تتقدمك حاملة سناء في قماطها، تلك الأيام الرائعة التي لا يدري أحد مدى صدقها” [اللص والكلاب: 8].
ـ فضاء حي الدراسة: حيث يقيم الشيخ علي الجنيدي المتصوف صديق والده، يتميز هذا المكان بالسكينة والاطمئنان والعزلة عن العالم، كما أنه مأوى لا يغلق أبدا، يلجأ إليه البطل في لحظات الشدة لكنه لا يشعره بالراحة، لأن رؤيته تختلف عن رؤية الشيخ.
ـ فضاء شقة نور: يكتسي هذا الفضاء أهمية كبيرة بالنسبة للبطل، وعلى الرغم من أنه لم يكن قادرا حتى على إشعال شمعة فيه خوفا من إثارة انتباه الجيران له، فإنه كان يجد فيه قدرا من الإنسانية ـ التي هجرت العالم الخارجي ـ في نور المرأة التي آوته وبادلته مشاعر الصدق والمحبة في أحلك الظروف.
ـ فضاء مقهى طرزان: في هذا الفضاء كان يحصل سعيد على معلومات عن أعدائه، وفيه حصل على المسدس الذي أهداه له طرزان لينتقم من الخونة.
ـ فضاء الفيلا التي يقيم فيها رؤوف علوان: وهو فضاء ينطق بالحياة الجديدة التي انخرط فيها رؤوف علوان، وينطق بالعهد الجديد، وشعاره الانتهازية والارتداد عن المواقف.
ـ فضاء المقبرة: يحمل هذا المكان دلالة الموت، والعزلة والوحدة والاغتراب الذي لا يطاق، فيها حوصر سعيد وقتل.

القراءة التركيبية
لقد بات واضحا أن رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ، رواية واقعية نقدية تشخص بعمق مشاكل الفرد في مجتمع تلاشت فيه القيم النبيلة، وساده الظلم والفساد. هذه الرؤية المأساوية التي يعبر عنها نجيب محفوظ في هذه الرواية، تستخلص من خلال مسار البطل الفردي. ولاشك أن الإصغاء لمشاكله ولمعاناته مع الذين خانوه، يعكس بالملموس أزمته الداخلية، وهي أزمة تخلع عليه سمة البطل الإشكالي، الذي يطمح إلى غرس القيم الجميلة في مجتمع يفتقد لكل مظاهر القيم والمبادئ.
إن الواقعية النقدية و الرمزية التي تندرج ضمنها هذه الرواية تبتدئ ملامحها من خلال ارتباط النص بأزمة الفرد، لذلك لا تكمن الأهمية ههنا في التعبير عن الواقع، أو الإكثار من الإيهام به و حسب، و إنما في استبطان الحياة الداخلية، و تلمس المعاناة و الإصغاء للنبض الداخلي، و ما يتحقق فنيا في الرواية نتيجة هذا الخط الفني يتمثل في إعطاء الأولوية لشخصية البطل أو لصورة وعيه، أما الاهتمام بالشخصيات الأخرى، فيتراجع إلا بقدر علاقتها بشخصية البطل، و دورها في الكشف عن نموه و تطوره، و قد لاحظنا أن مختلف مكونات الرواية من أزمنة و فضاءات و حكاية تشتغل بقوة من أجل التعبير عن الشخصية و جعلها واضحة المعالم في الخط الحياتي الذي رسمه المؤلف، لذلك ليس غريبا أن ينحو نجيب محفوظ منحى خاصا في التعامل مع هذه المكونات، فالوصف المرتبط بالأمكنة لا يحضر بتلك الكثافة إلا في علاقته بالشخصية، و كذلك الزمن، حيث لا يٌعنى الروائي بالزمن الطبيعي قياسا إلى الاهتمام الذي خص به الزمن النفسي و الذي يظهر على شكل معاناة و آهات لا حد لها، و يمكن أن نلاحظ كذلك نجاح الروائي في استثمار مقتضيات الشكل الروائي بما يفصح عن رؤية فنية جديدة، و يتمثل ذلك في تنويع تقنيات السرد و التداخل بين السارد و الشخصية و مزج الأزمنة الثلاث، و إحداث التداخل بينها عن طريق الاسترجاع و الاستباق فضلا عن تسريع وتيرة السرد بالاستفادة من الخلاصة و الحذف و غيرها من تقنيات الرواية، أما الحوارات التي تتنوع أساليبها: حوارات داخلية، حوارات عادية، فتضيئ مواقف الشخصية و منظورها إزاء ما يواجهها في العالم الذي تعيش فيه.
و النقاد الذين كتبوا عن تجربة نجيب محفوظ في هذه الرواية رصدوا جوانب عدة من إنجازه الفني، الشيء الذي بوأ الرواية مكانة هامة، جعلها تفصح عن مرحلة جديدة في مسار هذا الكاتب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *