الدرس اللغوي: الانزياح للثانية باك مسالك العلوم والتكنولوجيات

الدرس اللغوي: الانزياح للثانية باك مسالك العلوم والتكنولوجيات

يعد مصطلح الانزياح (L’ecart) من المصطلحات الشائعة في الدراسة الأسلوبية المعاصرة كما قدمت غالباً من العالم الغربي، وهو علمٌ قائم بذاته، يقوم على نظرية متجانسة ومتماسكة، كونها تستند إلى اللسانيات الأدبية على اختلاف تياراتها؛ المتباينة طوراً والمتشاكلة أطواراً أخرى.
وربما يكون جان كوهين هو أول من خصَّ هذا المصطلح بحديثٍ مستفيض في مجال حديثه عن لغة الشعر.
وقد جاءت محاولات كوهين وغيره من المنظرين لتقدِّمَ الشعرية خُطوةً أولى نحو موطنها، وجاءت الثانية لتميّز بين الشعر والنثر، فقامت نظرية الانزياح لديه على مجموعة من الثنائيات ضمن إستراتيجية الشعرية البنيوية، لاسيما في كتبه بنية اللغة الشعرية الذي ظهر عام 1966، حيث أثار فيه ثنائية المعيار والانزياح (L’écart, Le norme) مستمداً هذه المفاهيم من الأسلوبية الشائعة في فرنسا أسلوبية شارل بالي، شارل برونو، ماروزو، كيرو، وسواهم من الذين يعدون الأسلوب انحرافاً فردياً بالقياس إلى القاعدة.
تعدد المصطلح:
إن مفهوم الانزياح الذي نحن فيه الآن مفهوم تجاذبته وتعلقت بدائرته مصطلحات وأوصاف كثيرة، ومن البديهي أن تتفاوت المصطلحات، ولكن كثرتها تلفت الأنظار، وهذا التفاوت ليس قي الكتب العربية فحسب، بل هي غربية المنشأ، ويشير عبد السلام المسدي إلى بعض تلك المصطلحات مع ترقيمها واسم صاحبها:الانزياح L’écart فاليري، التجاوز L’abus فاليري، الانجراف La déviation سبيترز ، الاختلال La distorsion ويلك و وارين، الإحاطة La subversion لباتيار ، خرق السند La violation de support تودوروف، اللحن L’incorrection تودوروف، التحريف L’altération جماعة مو ، ومن أراد الاستزادة فعليه مراجعة كتاب الدكتور أحمد ويس (الانزياح)، فهي تقارب الأربعين مصطلحاً.
تعريف الانزياح:
الانزياح لغةً: الانزياح هو مصدرٌ للفعل المطاوع”انزاح”؛ أي ذهب وتباعد.
الانزياح اصطلاحاً -في النقد الحديث-: هو استعمال المبدع للغةِ مفردات وتراكيبَ وصوراً، استعمالاً يخرج بها عمّا هو مُعتاد ومألوف بحيث يؤدّي ما ينبغي له أن يتّصف به من تفرد وإبداع وقوّة جذب وأسر.
أنواع الانزياح:
1 – الانزياح الاستبدالي ( الدلالي ) : ويمثله المجاز، والمجاز المقصود هي المفردة حصراً وهي تلك التي تقوم على كلمة واحدة ( التي تستعمل بمعنى مشابه لمعناها الأصلي ومختلف عنه)، ويمثل كوهن لهذا النوع من الانزياح بالتالي: هذا السطح الهادئ الذي تمشي فيه الحمائم
فالسطح هو البحر والحمائم هي السفن، وجمالية البيت تكمن في هذه المفردات فلو قال :” هذا البحر الهادئ الذي تمشي فيه السفن (البواخر) لما شعرنا بأية شاعرية.
ملاحظة: تجدر الإشارة إلى أن المجاز موجود منذ القدم فأرسطو يقول: “أعظم الأساليب حقاً هو أسلوب المجاز…، هو وحده الذي لا يمكن أن يستفيد المرء من غيره، وهو آية الموهبة”.
أما تعريفه له أنه “نقل اسم شيء إلى شيء آخر”، فلو حاكمنا هذا التعريف بما انتهت إليه البلاغة العربية يكون معادلاً للمجاز اللغوي الذي يشمل الاستعارة والمجاز المرسل بالإضافة للكناية.
الانزياح الدلالي، وبنية النمط الشعوري
قَرَّ في النقد الأدبي، منذ أن أبرز الشكليون الروس الفروق الجوهريّة بين لغتي النثر والشعر، أن هذه اللغة الثانية –لغة الشعر- تتشكَّل على السطح الأملس المحايد للغة النثر، وتمارس فوقه تنظيم نسيجها ورسومها وخواصها التعبيريّة والتصويريّة المتميزة. ومنذ أن طرح هؤلاء الشكليون مفهوم الانتظام بوصفه خصيصة أساسية لِلُغَة الشعر، ثم طوّره “رومان ياكوبسن” مفهوم الأنساق باعتباره؛ أولاً: خصيصة للغة الشعر. وثانياً: الآليّة الرئيسية لخلق ما سماه “ريان موكار وفسكي”: التأريض الأمامي Foregrounding، حاولت دراسات متعدّدة اكتناه التجليات المختلفة، المُحتملة، للأنساق. وقد جَسَّد المحدثون هذه المفاهيم والفروق التي تُمَيِّز لغة الشعر بمصطلح الانزياح الذي يعني أن شعريّة اللغة تقتضي خروجها الفاضح على العُرف النثري المعتاد، وكسر قواعد الأداء المألوفة لابتداع وسائلها الخاصة في التعبير عمَّا لا يستطيع النثر تحقيقه من قيم جمالية، فبينما يُقَدِّم النثر (المعنى)، يُقَدِّم الشعر “معنى المعنى”.
والانزياح في معناه الواسع، هو كل خروج –غير مُبَرَّر- على أصول قاعديّة مُتَعَارَفٍ عليها، ويمكن حصر الانزياحات الشعريّة بالوقوف على الأشكال البلاغيّة والأسلوبية التي يطرحها علم النص، والتي تعتمد بالدرجة الأولى على حصر الانزياحات الشعرية، وهو يَتِمُّ، أولاً، طبقاً للمستويات الصوتية والدلاليّة، ثم يتم طبقاً للوظائف التقابليّة بأنماطها الإسنادية والتحديديّة والتراكمية، الأمر الذي يسمح مثلاً بالتمييز بين عامل إسنادي، وهو الاستعارة، وعامل تحديدي وهو الوصف، وآخر تركيبي وهو عدم الترابط.
وفكرة الانزياح déflection تعتبر خرقاً منظّماً لشفرة اللغة، يحاول بناء نمط شعوري آخر بنظام جديد، وجملة الأمر أن تجاوز نمطية اللغة أصبح من أهم المرتكزات الأساسية المحدثة في الخطاب الشعري المعاصر، الذي يتغيَّا استحداث لغة شعرية جديدة تتمرّد على القوالب الجامدة، فالألفاظ هي أوّل ما يلقانا في نصوص الشعر، لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أنّ “اللغة إنما تحدّدت ألفاظها بالقياس إلى عالم الأشياء الحسي، أمّا عالم النفس المعنوي فلا تزال ألفاظ اللغة قاصرة عن أن تحدّد معانيه، ولا تزال تضرب في تيهٍ من ماهيّاته، وهي ماهيّات غير متناهية، وما لا تناهي له لا يدرك إدراكاً دقيقاً بحيث يوضع لفظ محدّد بإزائه” ومن ثمَّ فلا قياس لنسب الانزياح في حقل النفس المعنوي، بل إن اللغة بعدئذ قادرة على استيعاب أقصى درجات الانزباح مهما كانت، لأن اللغة ليست هي القاصرة عن التعبير عمّا في النفس المعنوي، وإنما الوعي الاجتماعي والعرف، هذا هو موطن القصور الذي تعالجه اللغة الشعرية التي هي إحساس ووعي مقصود لذاته، إنها تفرض نفسها باعتبارها أداة فوق الرسالة التي تتضمنها، وأعلى منها، وتعلن عن نفسها بشكل سافر، كما أنها تشدّد بانتظام على صفاتها اللغوية، ومن ثَمّ فلا تصبح الألفاظ مجرّد وسائل لنقل الأفكار، بل أشياء مطلوبة لذواتها، وكيانات مادّية مستقلة بنفسها، وعلى هذا تتحول الكلمات من دوال إلى مدلولات

يقول الشاعر محمد فوزي العِنْتيل (1924-1981م):
أطيفك هذا الذي يرتمي على وحدتي
كنخلات قريتنا الوادعة
تُغطي الحقول بأحلامها في ليالي القمرْ
وتحتضن الطيرَ حين يَمُرُّ
بِجِيدٍ تَهَدّل منه الثمر!
فالألفاظ هنا لا تؤدّي معاني لغويّة واضحة أو غامضة فحسب. بل هي تؤدي كذلك معاني بيانية؛ فنحن ههنا –إذن- لسنا إزاء ألفاظ دقيقة، لها دلالات دقيقة، وإنما نحن إزاء رموز قاصرة يستعينون على قصورها بالخيال والموسيقا؛ ولكن قصورها لا يغادرها مغادرة تامة، بل تظلّ تسبح في ضبابٍ قليلٍ أو كثير، وهذا ما يجعلها واسعة الدلالة، حتى الألفاظ الحِسِّية، مثل (الجيد/ الثمر… الخ) تحسّ فيها اتساعاً شديداً وخروجاً عن مألوف الاستخدام اللغوي، فلا يَتَهَدَّل من جيد الحبيبةِ إلاّ ثدياها، كما يَتَهدَّل من “جيد” النخلة “البلح /الثمر”… فالشاعر هنا يحاول نقل أحاسيسه ومشاعره التي لا تستطيع ألفاظ اللغة القاصرة أداءها، ومثال آخر من مرحلة أقرب، يقول الشاعر:
ما الذي يَتبَقى للجريحِ…..
سوى طعنةٍ….
يدخلها غاضِباً…،
يُبَعْثِرُ فيها أغانيه…
في هذه البِنْيَة الاستفهامية، التي تتضمَّن في تضاعيفها إجابةً غير قاطعة، إجابة استفهامية، والانحراف أو الانزياح، تكمن قيمته، هنا، وقمّة عمله في لفظة “يدخلها” بإسناد فعل الدخول إلى الجريح، لا إلى نصل الخنجر مثلاً، فهذا المقطع وسابقه يفسحان المجال لوفرة من الاحتمالات، وفرق تفوق ما لنا أن نعرفه وندركه، ومرجع ذلك إلى أنّ حركات النفس الباطنة ومشاعرها وظلالها لا حصر لها.
والانزياح الدلالي في النص السابق يتجلى للمتلقين بفضل علامات البِنْية التي تتضَمَّنه والسياق القائم فيه، ومن هنا فإنّ الانزياح مهما بلغت درجته فإنه قابل للتحديد، فدرجة الانزياح هي التي تحدّد مستوى التشكيل الفني ذاته داخل النص، وتنوعه، إذ هي دائماً قابلة للتحديد، وفكرة “القاعدة اللغوية” هي التي يمكنها طرح تصوّر مناسب لحدود الانزياح، لم تعد –هذه- تعتمد على الاستعمال بتنوعه الشديد، وإنما أخذت ترتكز على مجموعة من القواعد الإجرائية المحدّدة الثابتة/ ومن هنا فإن الانزياح -باعتباره عدواناً منظّماً على القاعدة –وما اقترح من اعتباره الخاصيّة المميزة للشعرية البلاغية، وقد اكتسب بالتالي دلالة منطقيّة، فالانحراف اللغوي والانحراف المنطقي –الدلالي- ينحوان هكذا إلى الامتزاج. وانطلاقاً من ذلك أصبح من الممكن بناء نظريّة نموذج منطقي لأشكال اللغة الشعريّة.
ومن نماذج الانزياح الدلالي قول الشاعر عبد الكريم الناعم :
وأمي عتيقة الهموم تشتري براءتي بالعُمر، تَنْتَحِبْ.
تبكي عليَّ، فابنها جنازة تَفِرُّ من أحداثها،
نَعْش على أكتاف وَهْمِهِ يُسَاقْ.
وقِصَّة عتيقة ميناؤها الرياح..
ولنبدأ بِحَلّ شفرة هذا المقطع بتحويله إلى نثر،أي محاولة تقديم مقاربة دلالية له :
* “أُمُّهُ عتيقة الهموم تشتري براءته بالعُمُر(؟). تَنْتَحِبْ… تَبْكي عَلَيْه.
فابنها [التِفَات]- جنازة تَفِرّ من أحداقها (؟).
-[ وابنها]- نَعْشٌ على أكْتافِ وَهْمِهِ (؟).
– [ وهم النعش]- يُسَاقْ”.
إلى هنا ينتهي حقل التشكيل الإزاحي عند الشاعر، في هذا المقطع، ومن نثره نوجز ثلاث مناطق للانزياح:
(1) العمر –بلا تحديد.
(2) الجنازة التي تَفِر من أحداق أمِّهِ.
(3) نعش على أكتاف وهمه –وهم النعش- يُسَاق.
في المنطقة الأولى تستبدل براءته بِعُمْر لم تُحَدِّد مدلوله، وهو في نفس الوقت ليس عمرها؛ لأنها بعد تلك العملية تقوم بفعل؛ وتُقارب، بالمنطقة الثانية، مفتاحاً للأولى، حيث إنّ الثانية فِعل تقوم به أمّه. أمّا المنطقة الثالثة فهي ذروة الفعل الفنّي، وإن ماسَّتْ منطقة الغموض، فالنعش على أكتاف وهمه يُسَاق. فما هو وَهْمُ النعش؟ وماهي أكتاف هذا الوهم؟ مع الأخذ في الاعتبار “أنّ يُسَاق” فعل مبني للمجهول، أي تكريس المفعوليّة في مقابل تغيب الفاعل تماماً؛ ونخلص من ذلك إلى سؤال ثالث؛ من الذي يسوق النعش؟.
الشاعر هنا يسلك مسلكاً أسلوبياً معروفاً؛ إذ يُقدّم اعتقاداً ثم يَسْتَدِلُّ لصواب هذا الاعتقاد. فأمّه اشترت براءته /(قيمة الجوهر)، بعمره /(الهيكل العرضي)؛ بعد أن ذاب في الكأس عمرُه… لقد اتجهت الأم في الجوهر مدفوعة من نداء الغريزة التي تطمح إلى الكشف،… إلى المخبوء، والنفوس المثاليّة تتطلّع للسمو والتنزّه عن قصور البشريّين، وقد استعمل الشاعر الجَمَاد هنا. النعش –ليتداخل معه في حالات شعوريّة متساوقة بينهما بفرض تكافُئِهِمَا، وهو نوع مُتَقَدِمٌ من الإزاحة باعتبار الانزياح آلية لتقويض البناء التَعَقّلي بالإغراق فيه، في محاولة للوصول إلى الاتجاه الغريزي الذي ينزع نحو التسامي؛ فجمال الشعر وقيمته يكمنان في كونه منطقة وسطى بين العقل والغريزة، فلا هو معرفة مجرّدة، ولا هو اتجاه غريزي بَحْت. والنمط نفسه يتكرَّر في قصيدته “آتيك عَالماً فأَوْرِقي”، إذ يقول عبد الكريم الناعم:
وحينما لم تبق في الشفاه أغنية
مَدَدّتُ مقلتي
عبرت فوقها،
وصرت قُبّة في عالم بلا فلك
لقد احتفظت لغة الشعر –على مَرّ العصور- بمقوّمات فَنّية مازالت تنمو بفضل عباقرة الشعراء والنقاد في مختلف الآداب، وانتهت إلى العصر الحديث فأثّرت في أدبه من حيث صياغته ومعانيه. ولا ينال هذا التأثّر –في شيء- من اللغة ألفاظها وقواعدها؛ فهذا ما لم يَقُلْ به أَحَدٌ من المجدّدين الذين يُعْتَدّ بهم، في أدبنا العربي أو في الآداب العالميّة الأخرى، ولم يدر في خلد هؤلاء المجدّدين أن ينالوا من اللغة أو يُهَوِّنوا من شأنها أو من شأن المعرفة الدقيقة لأساليبها ومعانيها.
ومحصّلة الأمر أن هذه الظاهرة تتشعب إلى نوعين:
1- مُرُود قاعدي ruletic deviation.
2- انزياح مأسلوبي تركيبي أو دلالي ، displacement.
أولهما مرذول لأنه يُعتبر من أوجه القصور التي تصيب أدوات الشاعر. أما الثاني يُعَدّ بُعْداً جمالياً إذا لم يحاول الشاعر الإغراق فيه والالتزام بمدلول شعري قادر على تفجير الطاقة التواصلية للغة بين الشاعر والمتلقين.
2- الانزياح التركيبي:
من المعروف أن تركيب العبارة الأدبية عامة والشعرية منها على نحو خاص، يختلف عن تركيبها في الكلام العادي أو في النثر العلمي . فالشاعر، على حد قول كوهين، شاعر ” بقوله لا بتفكيره وإحساسه، وهو خالق كلمات وليس خالق أفكار، وعبقريته كلها إنما ترجع إلى إبداعه اللغوي” . بيد أن الكلام لا ينبغي أن يؤخذ على حرفيته، فيُظن بأن من طبيعة الشعر أن يخلو من الفكر، لأن مثل هذا الظن هو من قبيل المغالطة .
إن الانزياحات التركيبية في الفن الشعري تتمثل أكثر شيء في التقديم والتأخير، ومن المعروف أن في كل لغة بنيات نحوية عامة ومطردة، وعليها يسير الكلام : فالفاعل في العربية مثلاً يكون تالياً لفعله، وسابقاً مفعوله غالباً، إن كان الفعل متعدياً؛ على حين هو في الإنكليزية متصدر للجملة؛ أي أنه مبتدأ يتلوه فعل فمفعول… وهكذا. ويجب التنبيه إلى أن ليس كل عملية قلب تعد انزياحاً فهو يقول : “ينبغي لكي ينتج القلب أثره أن نعطيه ذلك الاتساع الذي تشير إليه البلاغة باسم الاعتراض”، ويضرب لنا كوهن مثلاً عن عملية القلب وأثرها على الجملة :
تحت جسر ميرابو يتدفق السين
ويقارنها بالجملة الأصلية، فيرد الكلمات إلى أماكنها الصحيحة، فيقول:
السين يتدفق تحت جسر ميرابو
والسؤال لماذا نشعر أن التركيب الأول أكثر شاعرية من الثاني؟
هل لمجرد مخالفته الاستعمال الشائع، ويقول الدكتور أحمد محمد ويس: إن المخالفة وحدها غير كافية لتوليد الشاعرية، ولابد من أن تكون وراء المخالفة قيم فنيّة وجماليّة، إذ ليس بالضرورة أن تكون المخالفة حباً لتميُّزٍ أو تفرد فحسب، والغالب أن يكون وراءها غاية فنية تعبِّر عن شيء في النفس.
ومما يدخل ضمن أشكال الانزياحات التركيبية من أسلوب إلى آخر انتقالاً مفاجئاً يستهدف إحداث تأثير فني ، من مثل ما كان يقوم به إليوت حين كان ينقل أسلوبه في مسرحياته عامداً من مستوى إلى آخر، فينتقل مثلاً من النظم الشعري إلى اللهجة الدارجة، كي يتحقق له نوع معين من التأثير، وواضح أن مثل هذا الانتقال ببنية العمل الفني على نحو عام. وشبيه بهذا الأسلوب أسلوب آخر كان يقوم به بعض مؤلفي العصر الإليزابيثي مما عرف بـ” الترويح الكوميدي” في المأساة، بالإضافة لظاهرة الالتفات في الرواية الحديثة ابتداءً من جيمس جويس وفرجينيا وولف خاصة. ومن ذلك ” طريقة التصوير الحر” لدى السرياليين في انتقالاتهم المفاجئة وتحريكهم لعناصر الواقع فيما يعرف بالخط الزماني والمكاني.
وطبعاً في المثال السابق (تحت جسر ميرابو يتدفق السين) نلمح التقديم والتأخير، وثمّة مَن أحسَّ من النقاد القدماء بهذه العلاقة بينه وبين الانزياح، فأدخله في باب المجاز، وعلى ذلك جَرَى أبو عبيدة وابن فارس الذي نراه يقرن بين كلٍّ من الاستعارة والتمثيل والتقديم والتأخير في سياق واحد في تعريفه للحقيقة بأنها: ( الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم ولا تأخير)، ومن هذا القبيل أيضاً ما صنعه ابن قتيبة، إذ أدخل التقديم ضمن باب القلب الذي يشتمل على كثير من أمثلةِ المجاز. أما ابن طباطبا فيبدو أنه يرى في التقديم والتأخير غثاثة يجب الاحتراز من مثلها، وهكذا فقد كان على الأعشى في رأيه بدل أن يقول:
أفي الطوف خفت علي الردى وكم من ردٍ أهله لم يَرِمِ
كان عليه أن يقول: ((لم يرمِ أهله))، ولكن الفارق الدلالي كبير جداً بين تقدير ابن طباطبا وبين ما يراه الشاعر، فالشاعر يريد التأكيد لابنته، وقد خافت عليه الهلاك من كثرة الأسفار، أن الموت لن يمتنع عنه حتى وإن تحصّن في داره وبين خلانه، وليس أحد أحرص على المرء من أهله وخلانه، ولكن الموت كثيراً ما ينتزع المرء من بينهم من دون أن يملكوا له دفعاً، كذلك يريد الشاعر ليُطمئن ابنته أن لا خوف على أبيها من الأسفار مهما تبعد أو تطول، مثلما لا أمان له من الموت حتى وإن يكن بين أهله وأولاده، وهي دلالات لا ندري هل كان ممكناً أن تُفهم من البيت لو أن الشاعر قال ما قاله على نحو ما أراد له ابن طباطبا؟!.
ويمكن رصد الانزياح التركيبي، على مستوى تقديم ما وجب تأخير وتأخير ما وجب تقديمه، في عودة الضمير على ما هو غير عائد عليه، أو عودة الضمير على متأخر، التكرار، وهناك ما يعرف بالانزياح بالحذف، وهو لا يعني حذف ما يمكن إدراكه من سياق الكلام، وإنما حذف ما لا يمكن إدراكه من سياق الكلام، وهنا نجد حذف حرف أو كلمة أو جملة، ومثاله من حذف حرف ما ورد في القرآن إما بحذف وحدة صرفية أو بحذف وحدة معجمية، أما الضرب الأول فمن قوله تعالى : ” ما ودعك ربك وما قلا ” ، فالواضح أن في الفاصلة الثانية عدولا، وبالضبط في قوله ” قلى ” إذ حذف منه كاف الخطاب” ، ما قلاك، لوجوب العطف على ودعك .ويكون بحذف وحدة معجمية كاملة كما في قوله تعالى:” قال من ربكما يا موسى” ، فسياق الآية قد استهل بمخاطبة فرعون لموسى وهارون، ثم عدل عن ذلك ليخص موسى عليه السلام بالنداء وحده” ، وهذا الجانب قد يجعلنا ندرجه في باب أسلوب الالتفات. وقد يكون الانزياح- العدول – بحذف جملة أو نص وهو ما سنراه في المستوى التركيبي لأسلوب التلميح الذي عرفه القزويني بقوله: “التلميح هو أن يشار إلى قصة أو شعر من غير ذكره” ، وأمثلة التلميح كثيرة لكل نوع منه، ونقدم مثالا يعزز لنا فكرة الانزياح على مستوى حذف بيت شعري، ويمكن القياس عليه في حذف جملة
:” خرج رجل على سبيل الفرجة فقعد على الجسر فأقبلت امرأة من جانب الرصافة متوجهة إلى الجانب الغربي فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم فقالت المرأة في الحال: رحم الله أبا العلاء المعري، وما وقفا، ومرا مشرقا ومغربا، فتبعت المرأة وقلت لها: إن لم تقولي لي ما قلتما وإلا فضحتك، وتعلقت بها، فقالت : قال الشاب رحم الله علي بن الجهم أراد قوله: عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدرى ولا أدري
وأردت أنا بترحمي على المعري قوله: فيا دارها بالحزن إن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال” .
فهنا يوجد انزياح بالحذف، فالمرأة كان لها أن تقول رحم الله أبا العلاء المعري حين قال كذا وكذا، و كذلك الرجل كان بإمكانه أن يقول رحم الله علي بن الجهم في قوله كذا وكذا، ولكنهما حذفا الأقوال على جهة التلميح، وهو ما شكل انزياحا على مستوى التبليغ.
وما يمكن قوله ها هنا أن الأمثلة كثيرة ومتنوعة، في كل نوع من أنواع الانزياح، وما ذكرنا من أمثلة إلا ما وجدنا أن الدراسات المهتمة بالانزياح تغفلها، ومجمل القول بأن أي خروج عن المألوف والشائع يعد انزياحا، فإذا سلمنا بأن الانزياح هو خروج عن معيار، فإن التضمين بهذا الشكل هو انزياح لأن استعمال حرف في مكان حرف آخر، هو خروج عن معيار استعمال الحروف في مكانها ودلالتها .
والمنظر للأسلوبية وفق الانزياح يجد نفسه محاصرا بأسئلة لابد منها وهي :
“- ما هو المعيار الذي نقيس بواسطته مدى الانزياح؟.
– ماذا عن النصوص الخالية من أي انزياح عن قاعدة ما؟.
– هل كل انزياح يحمل سمة الأسلوبية ؟، وهل كل قيمة أسلوبية ناتجة عن انزياح؟.
– كيف نتعامل مع هذه النظرية بإزاء تحليل النصوص لكتاب يكتبون بشكل عادي ؟.
– التركيز على الانزياح يجعلنا نهمل ملامح أخرى للنص المدروس، وفي ذلك تقصير.
– إن ما يعد انزياحا حينا قد يصبح قاعدة حينا آخر، فهذه الزئبقية تربك المنظر والمطبق معا .
ميكائيل ريفاتير لا يؤمن بأن هناك معيار مثالي، فهو مفهوم يلفه الغموض، ويعوضه بالسياق ، ويعتقد الكثير بأن أي خروج عن معيار أو انزياح عنه يشكل جمالية، وبه يسمو الأسلوب، لكن ليس في كل الأحوال
معيار الانزياح:
وهاهنا نحن أمام قضية ليس من اليسير حلها، وهي أن الفن قائم على معيار نفسي، في حين يعتمد العلم المعيار المنطقي.
فكيف سيُعرف الانزياح؟ وهل له معيار يُعرف به؟
للخروج من هذه الأزمة علينا أن نستجلي الفروق بين كل من الخطاب الأدبي والخطاب العادي، وسنجد أننا أمام آراء كثيرة تؤكدها، فمن ذلك ما ارتآه تودوروف حين اعتبر ” أن الحديث اللساني –العادي- خطاب شفاف نرى من خلاله معناه ولا نكاد نراه هو في ذاته، فهو مَنْفَذٌ بِلَّوري شفاف لا يقوم حاجزاً أمام أشعة البصر، بينما الخطاب الأدبي في كونه ثخيناً غير شفاف، يستوقفك هو نفسه قبل أن يمكنك من عبوره أو اختراقه، فهو حاجز بلوري طُلِيَ صوراً ونقوشاً وألواناً، فصدَّ أشعة البصر أن تتجاوزه”.
وفي هذا السبيل ذاته نجد مؤلفي البلاغة العامة يقولون: إن الذي “يميز الخطاب الأدبي هو انقطاع وظيفته المرجعية، لأنه لا يرجعنا إلى شيء ولا يبلغنا أمراً خارجياً، وإنما هو يبلغ ذاته، وذاته هي المرجع والمنقول في نفس الوقت، ولما كفَّ النص عن أن يقول شيئاً عن شيء إثباتاً أو نفياً فإنه غَدَا هو نفسه قائلاً ومقولاً”.
وظيفة الانزياح:
وظيفة الانزياح تخدم- في المقام الأول – النص ومتلقي النص.
ولا حرج في أن نسارع إلى القول أن الوظيفة الرئيسة التي أكثرت الدراسات الأسلوبية من نسبتها إلى الانزياح، إنما هي ” المفاجأة” . وغني عن البيان أن مفهوم المفاجأة مرتبط أصلاً بالمتلقي، وهو الذي أولَتْهُ الأسلوبية وغيرها من المدارس النقدية عناية خاصة، بل أدخلته ضمن دائرة الإبداع، بعد أن لم يكن له في العصور السالفة كبيرَ اعتبارٍ للمتلقي.
ويمكننا القول أن النقّاد القدماء قد عرفوا أهمية هذا المصطلح –في وجوهه القديمة-، وما يُنتجه من مُفاجأةٍ للمتلقي، ولكنهم لم يعرفوه كما عرفناه نحن، وإنما عرفوه بمصطلحات عديدة مجزّأة مبعثرة.
إذاً إن اليونانيين القدماء، ومن بعدهم العرب، وأخيراً الغرب قد عملوا خلال هذه الآلاف من السنين، لتطوير هذا المصطلح حتى غدا على هذا الشكل؛ أي أنه نتاج حضاري ثقافي شاركت فيه جميع الأمم، وليس مخصوصاً بأمَّةٍ معيّنة دون أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *