درس الفلسفة: مجزوءة الطبيعة و الثقافة: تقديم المجزوءة

درس الفلسفة: تقديم مجزوءة الطبيعة و الثقافة للحذع المشترك

– تقديم عام للمجزوءة:

إن الإنسان يخضع مثله مثل باقي الكائنات الحية الأخرى لنفس القوانين البيولوجية، متمثلة في: النمو، التغذية والتوالد. لكنه يتميز عنها في نفس الوقت بامتلاكه لنظام رمزي، يشتمل على الثقافة بكل تجلياتها: اللغة، الفن، الأسطورة… فإذا كان كل مؤثر تقابله استجابة فورية ومباشرة لدى الحيوان، فإنها تتأجل عند الإنسان، فيدخل النظام الرمزي (الثقافة)، حسب كاسيرر، لكي يملأ هذه المسافة الفاصلة بين المؤثر والاستجابة، وهكذا فالإنسان ذو طبيعة مزدوجة، فيها بعد طبيعي، يكمن في خضوعه للقوانين الفيزيائية التي تتحكم في المادة، والقوانين التي تتحكم في الكائنات الحية متمثلة في الغرائز وعلى رأسها غريزة البقاء، وبعد ثقافي، يتمثل في العالم الروحي والمعنوي الذي أبدعه لنفسه لتجاوز البعد الأول:
– فما هي مظاهر الثقافة عند الإنسان؟
– وما العلاقة التي تربط الطبيعة بالثقافة؟
– وكيف يتفاعل الإنسان مع الطبيعة؟
– وما هي مظاهر تعدد الثقافات واختلافها؟

الإنسان كائن ثقافي
– تمهيد:
لقد كان الإنسان يعيش في حالة الطبيعة شأنه شأن باقي الحيوانات الأخرى، يعيش حالة عزلة وتوحش بين الأدغال، لكنه اهتدى بعد ذلك إلى خلق عالم خاص به، هو عالم الثقافة من خلال إنتاج مجموعة من الأدوات والوسائل، وخلق أشكال للتعبير والتواصل:
– فما هي مظاهر الثقافة لدى الإنسان؟
– وهل يمكن اعتبار اللغة مظهرا أساسيا من مظاهر الثقافة؟
– وكيف ساهمت المؤسسات في انتقاله إلى عالم الثقافة؟
– وما هي أشكال التواصل وأنماط العيش لدى الإنسان؟

1- اللغة كعلامة ثقافية:
إن العلامة التي تميز الثقافة عند الجنس البشري هي اللغة، في نظر ك. ل. ستروس، وليست الأدوات المصنوعة. إننا إذا ذهبنا إلى كوكب مجهول، يقول ستروس، ووجدنا كائنات غريبة عنا تصنع الأدوات، فإننا لا نكون على يقين أنها كائنات تنتمي إلى المستوى الإنساني، أما إذا وجدنا لديها لغة مختلفة عن لغتنا لكنها قابلة إلى أن تترجم إلى لغتنا، فإننا سنكون متأكدين أن هذه الكائنات تمتلك ثقافة.

2- المؤسسات كمظهر ثقافي:
إن ظهور القضاء كمؤسسة ثقافية، هي التي نقلت الإنسانية من مرحلة الهمجية والتوحش، إلى مرحلة الحضارة والثقافة، في نظر ديورانت، حيث أحلت النظام محل الفوضى، والقضاء العادل مكان الوحشية، والقانون بدلا من العنف والإكراه.

3- أنماط العيش والتبادل:
إن أشكال التواصل داخل المجتمع تتم على ثلاث مستويات، حسب ستروس، وهي تواصل النساء، تواصل الأموال والخدمات، تواصل الآثار الأدبية والفنية. حيث يندرج الأول ضمن نظام القرابة، في حين أن الثاني يندرج في النظام الاقتصادي، أما الثالث فيندرج في طار النظام اللغوي، وهكذا فإن تواصل النساء ذو إيقاع بطيء في حين أن تواصل الآثار الأدبية والفنية إيقاعه سريع جدا، أما إيقاع الأموال والخدمات فيبقى إيقاعا متوسطا، لأن النساء أشخاصا وقيما، في حين أن اللغة هي رموز وعلامات، أما الأموال والخدمات فهي قيم لكنها تحتاج إلى بعض الرموز والعلامات، عندما يبلغ الرواج الاقتصادي درجة معينة من التعقيد.

– استنتاج:
إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتجاوز عالمه الطبيعي، ليخلق لذاته عالما خاصا به، هو عالم الثقافة، وهو عالم له مظاهر عدة، تتمثل في: اللغة، المؤسسات، أنماط العيش، والتواصل…

التمييز بين الطبيعة والثقافة
– تمهيد:
إن اعتبار الإنسان كائنا ثقافيا يعني انه منتج للثقافة بكل مظاهرها سواء كأفكار وقيم ومعتقدات، أو عندما تتحول إلى طقوس وممارسات وسلوكات، وأنماط عيش. مما يجعلها عالما متميزا عن عالم الطبيعة الذي يتمثل في القوانين البيولوجية والغرائز التي تتحكم في الإنسان مثله مثل باقي الحيوانات الأخرى، مما يدخل هذين العالمين في حالة صراع:
– فما هي الطبيعة؟ وما المقصود بالثقافة؟
– وما العلاقة التي تربط الإنسان بالطبيعة؟
– وكيف يتفاعل ما هو طبيعي، بما هو ثقافي في الإنسان؟

1- مفهومي الطبيعة والثقافة:
أ- مفهوم الطبيعة:
لقد قدم لنا جان فال تعريفا اشتقاقيا لكلمة الطبيعة، حيث نجد مفردة (physis) الإغريقية، و(natura) اللاتينية تعني: القدرة على النمو الكامنة في الأشياء، كالسماء، الأرض، الكواكب، الحيوانات والإنسان، كما قدم أرسطو مفهوما فلسفيا للطبيعة عندما اعتبر طبيعة شيء ما هو فكرته أو شكله، وأن الطبيعة الأولى هي الماهية.
ب- مفهوم الثقافة:
إن مفهوم الثقافة في نظر هيرسكوفيتش يتميز بالتنوع، حيث نجدها تتميز بطابع الاكتساب، كما تساعد الإنسان على التأقلم مع وسطه طبيعي، وتتمثل في عدة مظاهر كالمؤسسات، وطرق التفكير، والأشياء العادية…
أما الثقافة، في نظر تايلر، فهي كل مركب، يتشكل من المعارف، المعتقدات، الفن، الأخلاق، القوانين، التقاليد، وكل الأعراف الأخرى، والعادات المكتسبة من طرف الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع.

2- الإنسان كمنتج للثقافة:
إن الإنسان، حسب جورج بطاي، هو الكائن الوحيد الذي لا يقبل بالمعطى الطبيعي، بل يغيره ويحوله من خلال استخراج وصنع الأدوات والأشياء، وهذه العناصر هي التي تشكل عالم الثقافة، لكنه في نفس الوقت هو نتيجة للثقافة من خلال عملية التنشئة الاجتماعية (التربية)، وهكذا فإن الإنسان يتضافر في تشكله عنصران، عنصر طبيعي، وآخر ثقافي، ولا يمكن أن نعطي الأولوية لعنصر على آخر.

3- جدلية الطبيعي والثقافي لدى الإنسان:
لتحديد الطبيعة الإنسانية، في نظر إدغار موران، هناك مدخلان وهما:
– مدخل ثقافي: يتمثل في كون الإنسان له مفهوم ثقافي يختلف باختلاف التحولات الثقافية الكبرى.
– مدخل طبيعي: يتمثل في كونه كائنا حيا يتميز بسمتين أساسيتين وهما: كونه يمشي على قدمين، ويمتلك دماغا كبيرا.
وهكذا تتداخل في طبيعة الإنسان العناصر الطبيعية بالعناصر الثقافية، فتكون كل أفعاله وسلوكاته، أفعال طبيعية وثقافية في نفس الآن، كأفعال: الأكل والشرب والنوم…
– استنتاج:
إن هناك علاقة تفاعلية بين الطبيعة والثقافة، حيث تؤثر الطبيعة في الثقافة، والعكس صحيح، وهكذا نجد الإنسان يتفاعل هو الآخر مع الثقافة، فهو كائن منتج للثقافة وفي نفس الوقت نِتاج لها، وهذا ما يجعله مزدوج الطبيعة فيه ما هو ثقافي، وما هو طبيعي في نفس الوقت.

الطبيعة موضوع للنشاط الإنساني
– تمهيد:
منذ البدايات الأولى للإنسان دخل في علاقة مع الطبيعة تمثلت أولا في الصيد والتقاط الثمار، ثم تطورت بعد ذلك مع ظهور الزراعة، إلى أن بلغت ذروتها مع الإنتاجات الصناعية، التي ستطبع تدخل الإنسان في الطبيعة، باعتبارها موضوعا لنشاطه، وهكذا أصبح الإنسان متفاعل مع الطبيعة، ولم يبق مجرد منفعل بها:
– فما العلاقة التي تربط الإنسان بالطبيعة؟ هل هي علاقة توافق أم صراع؟
– وما هي أشكال السيطرة على الطبيعة؟
– وهل ينبغي أن نحد من تدخلنا في الطبيعة؟ ولماذا؟
1- الانسجام مع الطبيعة:
يتميز الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى، بما فيها الثدييات- في نظر رالف لينتون- بقابليته للتعلم إلى ما لا نهاية. وباعتبار الإنسان مزدوج الطبيعة، أي كائن عاشب من جهة، ولاحم من جهة ثانية، أهله هذا لتطوير الزراعة، وتدجين الحيوانات كذلك. وبهذا فقد استغل كل الإمكانات التي تتيحها له الطبيعة، وبما أنه كائن يمشي على قدمين، فقد كان استعمال الدرج بالنسبة له أنسب من المنحدرات. إن امتلاك الإنسان لجسد عار من الشعر، دفعه إلى صنع الملابس، وبناء المساكن. بل ظهرت لديه كذلك بعض السلوكات والعادات المرتبطة بالاحتشام والاستحمام. وهكذا نجد الإنسان يعيش في انسجام مع وسطه الطبيعي.
2- المواجهة مع الطبيعة:
تتميز العلاقة بين الطبيعة والإنسان في بعض الأحيان بالمواجهة والصراع، حسب سيغموند فرويد. وتتمثل بالخصوص، في الكوارث الطبيعية، كالزلازل، الفيضانات، الأعاصير… هذه الكوارث تترتب عنها عدة نتائج على مستوى الإنسان، وهي:
– شعور الإنسان بالضعف والعوز، اللذين نسيهما نتيجة سيطرته وامتلاكه للطبيعة.
– ظهور مشاعر التآزر والتضامن في مواجهة هذه الكوارث، ما دامت الغاية هي الحفاظ على بقاء الإنسانية.
3- تحويل الطبيعة والسيطرة عليها:
يتميز الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى، في نظر فرنسيس بيكون، بالطموح وهو على ثلاثة مستويات:
– الطموح الأول: طموح الإنسان للسيطرة على وطن بكامله، وهو طموح عامي ووضيع.
– الطموح الثاني: ويتمثل في السيطرة على كل الجنس البشري. وهذا الطموح يتميز بخاصية الاحترام لكنه يتميز بخاصية الطمع كذلك.
– الطموح الثالث: وهو طموح الإنسان للسيطرة على الطبيعة والكون، وهو طموح يتميز بالعظمة والنبل.
إن الوسيلة الكفيلة بتحقيق هذه الأنواع من الطموح لدى الإنسان هي العلم وسائر الفنون (الحرف، والصناعات…).
– استنتاج:
– هل ينبغي أن نحد من تدخلنا في الطبيعة؟ ولماذا؟
منذ السبعينات اكتشفنا المزابل، والإشعاعات الطبيعية، والتبخرات الناتجة عن التقدم التقنو- صناعي الحضري. فقد غزانا فيروس « السيدا » الذي يعتبر أول فيروس يدخل التاريخ من بين جملة الفيروسات الأخرى، والتي هي الآن قيد الظهور، إضافة إلى ظهور بكثيريا جديدة تصمد أمام المضادات الحيوية. كما اتسعت دائرة الموت متمثلة في تهديد شبح السلاح النووي- الحراري، والكيماوي، والبيولوجي الذي يتربص بنا. إن الهيمنة الجامحة للتقنية على الطبيعة تقود الإنسانية نحو الانتحار، لذا وجب أن نحد من تدخلنا في الطبيعة، لننقد هذا الكوكب الأزرق من انهيار توازنه البيئي الهش أصلا.

تعدد الثقافات واختلافها
– تمهيد:
إن ما يميز النوع البشري، هو التعدد، سواء تعلق الأمر بعرقه، أو بثقافته (لغته، دينه، نمط عيشه…)، وهذا التعدد ليس سمة مميزة للحضارات والشعوب والأمم فحسب، بل هي سمة يتميز بها المجتمع الواحد، والثقافة الواحدة أيضا، غير أن الإقرار بالتعدد، قد يلغي القول بالأصل أو الهوية الواحدة، كما قد يلغي التفاضل بين الثقافات والاعتقاد في سمو ثقافة على أخرى، وهذا ما يدفعنا إلى طرح الأسئلة التالية:
– هل هناك ثقافة كونية واحدة؟ أم هناك ثقافات متعددة؟
– وإن كانت متعددة، فهل العلاقة بينها، علاقة صراع؟ أم تعايش؟
1- كونية الثقافة وتعدد الثقافات:
إن ازدواجية وحدة / تنوع الثقافات- في نظر إدغار موران- ازدواجية أساسية: تحافظ الثقافة على الهوية الإنسانية، وبشكل أدق على الأشياء الأكثر خصوصية فيها، وتحافظ الثقافات على الهويات الاجتماعية في أدق خصوصيتها. قد تعطي الثقافة الانطباع بأنها تنغلق على ذاتها حفاظا على هويتها الخاصة، لكنها في الواقع تظل مفتوحة، إذ تدمج داخلها ليس فقط المعارف والتقنيات، ولكن أيضا الأفكار، والتقاليد، والمأكولات، والأفراد الآتين من آفاق أخرى. وكل ربط بين ثقافتين فيه إغناء للثقافات ذاتها، إنه يفضي إلى إنجازات خلاقة، بفضل التهجينات الثقافية كتلك التي أعطت الفلامينكو، وموسيقى أمريكا اللاتينية، والراي… وعلى العكس من ذلك، يشكل تدمير ثقافة ما بفعل الهيمنة التقنية الحضارية، خسارة للبشرية جمعاء، والتي يشكل تنوع ثقافتها أحد أغلى كنوزها.
2- صراع الثقافات وتعايشها:
أ- صدام الحضارات:
تجتهد الشعوب والأمم- حسب صموئيل هنتينجتون- للجواب عن السؤال الأساسي بالنسبة لجميع الناس ألا وهو: من نحن؟ وتتم العودة إلى أقدم الأجوبة التقليدية بحثا عن الجواب، إنهم يعودون إلى ما يعتبرونه مهما بالنسبة لهم. يعثرون على ذواتهم في الجماعات الثقافية: القبائل، الأعراق، الجماعات الدينية، الأمم والحضارات بشكل عام، فهم يستغلون السياسة، ليس من أجل تقديم مصالحهم الخاصة، بل من أجل تحديد هويتهم، إننا نعرف من نحن عندما نعرف ما لسنا إياه، وفي الغالب عندما ندرك ضد من نحن. إن الدول- الأمم، تظل هي العوامل الرئيسية الفاعلة على الساحة الدولية، وكما كان الأمر في الماضي، فإن سلوكها يبقى مقيدا بالبحث عن القوة والثروة، إلا أن هذا البحث يخضع أيضا، وبامتياز، للروابط الجماعية والاختلافات الثقافية…
في هذا العالم الجديد، لن تحدث الصراعات الشاملة والمهمة والخطيرة بين الطبقات الاجتماعية، بين الأغنياء والفقراء، بين الجماعات المحددة وفق معايير اقتصادية، بل ستحدث بين شعوب منتمية لهويات ثقافية مختلفة. إن الحروب القبَلية والصراعات العرقية، سوف تتأجج أكثر فأكثر داخل الحضارات نفسها.
ب- كيفية مواجهة صراع الثقافات:
تؤدي كل من نزعة التمركز حول العرق، ونزعة التمركز حول المجتمع، إلى أنواع مختلفة من كره الأجانب ومن النزعات العنصرية، حسب إدغار موران، والتي يمكن أن تصل إلى حدود نزع صفة الإنسان عن الأجنبي. وهكذا فالصراع الحقيقي ضد النزعات العنصرية، من الأفضل أن يتم ضد جذورها المتمركزة حول الذات وحول المجتمع، عوض أن يتم ضد أعراضها. إن مسببات ونتائج أسوء عدم الفهم لهي الأفكار المسبقة، وأنواع التبرير العقلاني المعتمدة على آليات اعتباطية، وتبرير الذات بشكل جنوني، والعجز عن النقد الذاتي، واعتماد طريقة مرضية في البرهنة، والكبرياء، والجحود، والاحتقار، وخلق متهمين وهميين والعمل على محاكمتهم.
– استنتاج:
إن الثقافة وإن كانت معطى كونيا نظرا لوجودها في كل الحضارات والمجتمعات، فهي تتعدد بتعدد هذه المجتمعات نفسها كل حسب تاريخه ومحيطه. إلا أن كثير من الأشكال الثقافية تؤدي إلى صراعات ونزاعات بين الجماعات والشعوب، لكن عندما يتم تجاوز هذا الصراع، يحصل الارتقاء إلى مستوى التعايش السلمي ويسود الاحترام المتبادل والتسامح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *