البيداغوجيات النشيطة: البيداغوجيا الفارقية

تكتسي البيداغوجيا الفارقية ـ إلى جانب البيداغوجيات النشيطة الأخرى ـ أهمية خاصة في العملية التربوية، لما تشكله من تصور متقدم لتحسين جودة التعلمات، و لما تقدمه من إمكانات للرفع من المردودية التعليمية التعلمية، و محاربة التعثر و الفشل الدراسيين، و دمقرطة الفعل التعليمي التعلمي من خلال المساهمة في تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين المتعلمين، كما أنها تعد شرطا ضروريا من شروط بناء الكفايات و تطويرها. و بالرغم من ذلك، فهذه المقاربة البيداغوجية لا زالت لم تُستنبت بعد في مدرستنا المغربية، إذ أن معظم المدرسين يهملونها في ممارساتهم الصفية، فلا يتعاملون مع المتعلمين في الفصل الواحد بشكل فارقي، بل ينظرون إليهم ككتلة واحدة منسجمة و متجانسة، مما ينعكس سلبا على النجاعة البيداغوجية و يفضي إلى ما يمكن نعته بالخسارة التربوية.

فما مفهوم البيداغوجيا الفارقية ؟ و ما هي أبرز الفروقات الفردية بين المتعلمين ؟ و ما أهداف هذه المقاربة البيداغوجية ؟ و كيف يمكن أجرأتها و تفعيل مقتضياتها في الفصول الدراسية ؟
1) مفهوم البيداغوجيا الفارقية: استخدم هذا المفهوم لأول مرة سنة 1973 م مع المربي الفرنسي “لويس لوغران” في سياق البحث عن آليات جديدة لتطوير التدريس، و محاربة ظاهرة الفشل المدرسي. وقد عرف لوغران البيداغوجيا الفارقية بأنها ” طريقة تربوية تستخدم مجموعة من الوسائل قصد مساعدة المتعلمين المختلفين في العمر و القدرات و السلوكات، و المنتمين إلى فصل واحد على الوصول بطرق مختلفة إلى الأهداف نفسها “. la différenciation pédagogique 37

نستشف من هذا التعريف أن البيداغوجيا الفارقية:

ـ أسلوب بيداغوجي تكون فيه الأنشطة التعليمية و إيقاعاتها مبنية على أساس الفروق و الاختلافات التي قد تبرز لدى المتعلمين في وضعيات التعلم، و بذلك فهي بيداغوجيا تشكل إطارا تربويا مرنا و قابلا للتغيير حسب خصوصيات المتعلمين و مواصفاتهم .

ـ “هي بيداغوجيا تفريدية تعترف بالتلميذ كشخص له إيقاعه الخاص و تمثلاته و تصوراته الخاصة بالوضعية التعلمية”.

ـ ” هي بيداغوجيا تنويعية تعددية تقترح مسارات تعلمية متنوعة و تستحضر خصوصيات كل متعلم،فهي تتنافى بهذا الاستحضار مع مقولة أن الكل واحد في أداء العمل بنفس الإيقاع و الوثيرة، و في نفس المدة الزمنية، و بنفس الطريقة والنهج…

” و معنى ذلك أن هذه المقاربة تؤمن بوجود فوارق فردية بين المتعلمين، و تكيف عملية التعليم و التعلم حسب خصوصياتهم بغية جعل كل فرد يصل إلى الأهداف المرجوة وفق إمكاناته الذاتية باعتبار أن الفصل الدراسي هو إطار يتسم باللاتجانس و الاختلاف عوض وحدة وهمية…

2) نماذج من الفروق الفردية بين المتعلمين: لقد بينت الدراسات في مجال علم النفس المعرفي أن الأفراد يختلفون في قدراتهم التحصيلية و وتائر تعلمهم، فلا وجود لمتعلميْن يسيران بنفس السرعة في تعلماتهما و يستعملان تقنيات الدراسة نفسها و يمتلكان قائمة السلوك نفسها، فهناك مثلا من يتعلم القراءة و الكتابة بوتيرة سريعة، و هناك من يجد صعوبة في اكتساب هذه المهارات و يحتاج لوقت أطول و إيقاع بطيء للتمكن منها. لذلك كان من العبث ـ كما يقول “فيليب ميريو” ـ أن ننتظر من التلاميذ النتائج نفسها. و يعزى ذلك إلى وجود فوارق فردية بينهم يمكن تصنيفها كالتالي:

أـ الفوارق المعرفية و الذهنية: و يدخل ضمنها اختلاف التمثلات و القدرات الفكرية كالإدراك و الاستيعاب و التذكر … و كذا الاختلاف في أنماط و أنساق و استراتيجيات التعلم…

ب ـ الفوارق السيكولوجية: و تشمل القدرة على التكيف و درجة التحفيز و الدافعية للتعلم و صورة المتعلم عن ذاته و السمات المزاجية كالإنطواء و الخجل و الجرأة و الرصانة …

ج ـ الفوارق السوسيو ثقافية: و ترتبط بالوسط الاجتماعي و الثقافي الذي نشأ فيه المتعلم كالعلاقات الأسرية و التاريخ المدرسي و مختلف قنوات التنشئة الاجتماعية…

و مهما كانت العوامل المؤثرة في هذه الفروق، فإن المدرس مدعو لمراعاتها و تكييف ممارسته التدريسية مع خصوصيات المتعلمين من أجل ضخ الحياة في العملية التعليمية التعلمية و إنقاذها من السقوط في النمطية التي تولد لدى المتعلمين الملل و النفور من التعلم. لكن ذلك لا يعني أن عليه أن يكون موسوعيا يتعمق في مختلف مناحي حياة المتعلم السيكولوجية و الاجتماعية و غيرها، بل المقصود أنه إذا كان بإمكانه القيام ببعض هذه المهام بحكم احتكاكه اليومي بالتلاميذ و ملاحظته لسلوكهم داخل القسم، فإن عليه أن يناقش الحالات التي تعاني من صعوبات مع أولياء الأمور و المختصين في التشخيص النفسي و التوجيه التربوي، و الذين ينبغي توفرهم مبدئيا في جميع مؤسسات التعليم. و لا بد من التأكيد في هذا المقام ـ كما ذهب الدكتور أحمد أوزي ـ على ضرورة اهتمام المسؤولين عن قطاع التربية ببلادنا بالبعد الإنساني في العملية التعليمية التعلمية، و عدم التركيز فقط على جوانبها المادية، فمؤسساتنا التعليمية على اختلاف أسلاكها لم تعرف بعد الخدمات النفسية للتلميذ، و التي بدونها لا يمكن فهم شخصيته و تكوينه، و سيستمر التعامل معه كما لو كان آلة صماء، مما يؤثر سلبا على تحصيله الدراسي.

3) أهداف البيداغوجيا الفارقية:

تروم هذه المقاربة البيداغوجية تحقيق جملة من الأهداف أبرزها:
+ ردم الفوارق الفردية بين المتعلمين و تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص و المساواة فيما بينهم.
+ التقليص من ظاهرة التسرب و الفشل المدرسي، و ذلك بالبحث عن مختلف الحلول الممكنة للحد من هذه الظاهرة التي تقذف بنسبة كبيرة من أطفـالنا إلى الشارع …
+ تنمية المهارات الشخصية للمتعلم مثل الثقة في النفس و الاستقلالية و التعلم الذاتي …
+ تحسين العلاقات التفاعلية بين أطراف العملية التعليمية التعلمية.
+ تمكين كل متعلم من اكتساب الكفايات الأساس.

4) تفعيل البيداغوجيا الفارقية في الفصول الدراسية:

إن تفعيل البيداغوجيا الفارقية و إرساءها داخل الفصل الدراسي يستلزم اتخاذ عدد من الإجراءات التي يمكن تصنيفها إلى إجراءات ما قبل التنفيذ البيداغوجي و إجراءات التنفيذ البيداغوجي.

أ) إجراءات ما قبل التنفيذ البيداغوجي: قبل الشروع في تطبيق البيداغوجيا الفارقية في الفصل الدراسي، يجدر أولا بالمدرس و الأطراف الأخرى اتخاذ بعض التدابير الضرورية حتى تكون عملية أجرأتها ميسرة التناول، و من هذه التدابير:

وضع جداول توقيت تتسم بنوع من المرونة، لأن جداول التوقيت التقليدية تقف حاجزا أمام التطبيق العقلاني لهذه البيداغوجيا.
توفير الحجرات الدراسية اللازمة، و ليس من الضروري إحداث حجرات دراسية جديدة، و إنما باستغلال ما هو متاح منها بطريقة تربوية.
القيام في بداية السنة الدراسية، و بناء على نتائج التقويم التشخيصي و معطيات مختلف الروائز، بفرز فئة التلاميذ التي تمتلك الكفايات اللازمة التي تتأسس عليها التعلمات في المستوى الدراسي الحالي، و الفئة التي لم تكتسب بعد تلك الكفايات. و يكون هذا التفييء أوليا و قابلا للتغيير مع التقدم في دروس المنهاج.
الدخول في تعاقد بيداغوجي مع التلميذ و أسرته، لإطلاعهم على الصعوبات التي تعترض المتعلم و التعثرات التي يعاني منها، لا سيما إذا تبين للمدرس أن ثمة عوامل خارجية تعرقل اكتساب التلميذ للكفايات اللازمة (المشاكل الأسرية ، الاضطرابات النفسية …)

ب) إجراءات التنفيذ البيداغوجي: و المقصود بها مجموعة من الممارسات الصفية التي يقوم بها المدرس، فلا مناص لهذا الأخير في إطار تطبيقه للبيداغوجيا الفارقية من ممارسة طرق التفريق البيداغوجي، حتى يتم تكييف عملية التعلم مع حاجيات المتعلمين.و من مظاهر التفريق ما يلي:
ـ التفريق عن طريق المحتويات المعرفية : تستلزم البيداغوجيا الفارقية تنويع محتويات التعلم داخل الصف الواحد و تكييفها حسب القدرة الاستيعابية للتلاميذ و إيقاعهم التعلمي من أجل إكسابهم الكفايات الأساس. فقد يلاحظ المدرس مثلا أن نصا قرائيا من نصوص المقرر يتسم بنوع من الصعوبة ، فيعمد إلى استثماره في الدرس مع الفئة المتفوقة فقط، بينما ينتقي نصا قرائيا أكثر بساطة بالنسبة للفئة المتعثرة. و قديكتفي المدرس مثلا بإملاء جملة أو جزء من نص الإملاء على مجموعة خاصة من التلاميذ و يواصل العمل مع التلاميذ الأكثر تحصيلا… و تجدر الإشارة في هذا السياق إلى ضرورة التعامل النقدي مع الكتاب المدرسي باعتباره أداة مساعدة فقط، فلا ينبغي التقيد بمحتوياته حرفيا، بل يمكن التصرف فيها بالتعديل و التغيير و الإضافة و الإثراء بما يستجيب لحاجيات المتعلمين. كما ينبغي للمدرس أن يتخلص من هاجس إتمام البرامج الدراسية، ما دام الأساس هو إيصال مختلف التلاميذ إلى تملك الحد الأدنى المشترك من المعارف و المهارات و الكفايات الضرورية خلال مرحلة تعليمية محددة.

ـ التفريق عن طريق الأدوات و الوسائل التعليمية : إن استخدام الوسائل التعليمية ضروري في مجال التدريس، إلا أن نسبة جدواه ليست متكافئة بالنسبة للمتعلمين إلا بقدر توافقها مع النمط المعرفي الخاص بكل متعلم. فهناك تلاميذ يستوعبون الدروس عن طريق الاستماع ( إلقاء درس / محاضرة …) و آخرون عن طريق الإدراك البصري ( استخدام المشاهد التعليمية) و يتعلم البعض الآخر عن طريق الممارسة الحسية ( إنجاز تجارب / القيام بزيارات ميدانية …). و لا يتمثل الحل الأسلم في احترام هذه الأنماط المعرفية لدى المتعلمين لأن ذلك سيؤدي حتما إلى إغراقهم في تلك الأنماط، الشيء الذي يحد من قدراتهم المعرفية و بالتالي يجعلهم ، غير قادرين على التعلم باعتماد أشكال مغايرة . و يبقى تنويع هذه الأنواع و الأساليب ضروريا لتمكين مختلف التلاميذ -حسب اختلافاتهم- من التعلم بأشكال متنوعة.

ـ التفريق عن طريق الوضعيات التعلمية : الوضعيات التعلمية وضعيات مركزة حول مفاهيم التعلم، و هي وضعيات –رغم أنها من تصميم المدرس و إعداده- تتمحور حول المتعلمين و تأخذ بعين الاعتبار خصائصهم المعرفية و الثقافية و الاجتماعية ( مكتسباتهم السابقة / تصوراتهم / صعوباتهم … ) و يتمثل التفريق البيداغوجي عن طريق الوضعيات التعليمية التعلمية في تنويع هذه الوضعيات بحسب حاجات المتعلم و خصائص الكفايات المستهدفة و الفترات الزمنية وعدد التلاميذ بالفصل الواحد …

و يمكن أن يكون هذا التفريق حسب نمطين اثنين :

أ = التفريق المتتابع : يهتم بتنويع الوضعيات التعليمية التعلمية تبعا لخصائص المتعلمين و حاجاتهم المعرفية و قدراتهم على التعلم و التقدم في المنهاج الدراسي مع توحيد الأهداف.
ب = التفريق المتزامن : يعتبر هذا النمط أكثر تعقيدا و صعوبة في تنفيذه بالمقارنة مع النمط السابق، حيث يقصد به تنويع الأهداف و المحتويات و الأنشطة في الآن نفسه، بحيث يصبح تلاميذ الفصل الواحد بمثابة ” خلية نحل ” كل مجموعة ( أو فرد ) تقوم بمهمة خاصة تختلف في طبيعتها و درجة صعوبتها عما ينجزه الآخرون …

ـ التفريق على مستوى أشكال العمل: يقتضي العمل التربوي الفارقي إعادة تنظيم الفصل الدراسي، فتارة يتم الاشتغال مع القسم كله، و تارة مع مجموعة كبيرة أو صغيرة، و قد يتجه إلى العمل الفردي.

ـ التفريق على مستوى التدبير الزمني: ما دام لكل متعلم وتيرته و إيقاعه الخاص في التعلم، و بما أن المتعلمين لا يتعلمون في المدة الزمنية نفسها، فالمدرس مطالب بتوزيع الوقت اليومي و الأسبوعي بشكل مرن، و عليه أن يضحي ـ كلما ارتأت مصلحة المتعلمين ذلك ـ بجانب كبير من المحتويات الدراسية، لأن الأهم هو إكسابهم الكفايات الأساسية، و الوقت لا يجب أن يكون عرقلة في هذا الاتجاه.

و في نهاية المطاف، ينبغي التأكيد على أن البيداغوجيا الفارقية ليست نظاما مغلقا يضع قطيعة مع باقي المقاربات البيداغوجية النشيطة، بل إنها تنفتح عليها و تتكامل معها. لذا فالمدرس مدعو لعدم إغفال المقاربات الأخرى، بحيث يختار الأنسب منها لحاجيات متعلميه و خصوصية وضعيات التعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *