تحليل النصوص: شعر المدح: نص الهمزية في مدح خير البرية للبوصيري

تحليل النصوص: شعر المدح: نص الهمزية في مدح خير البرية للبوصيري

الجذع المشترك الادبي

سياق النص
النص من قصيدة للبوصيري يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعى الهمزية في مدح خير البرية نسبة إلى رويها، وهو مدح نابع عن حب عميق وإخلاص منقطع النظير وفعل يرجى من ورائه الخير العميم لأنه مدح لخير الخلق وبيان للخير الذي جاء به وحل معه، وهو أيضا بعض اعتراف وإقرار بالجميل ولحظة بوح صادقة وانخراط في تبتل وخشوع كبير ، ورحلة إلى التطهير والصفاء اتخذت لها الصوفية العربية في العصر المملوكي المدح النبوي مطية ذلولا يحتمى بها من فساد الزمان وأصحابه، وهجمة الأعداء على ديار الإسلام ، وكثرة الهموم والأسقام، وهو للإمام البوصيري المغربي الأصل المصري النشأة، ولد سنة 608هـ ، وتوفي سنة 696 ، عاش متصوفا شاذليا زاهدا في الدنيا.
ملاحظة النص
يفصح عناوان النص عن كون القصيدة مدحا، ويصرح تصريحا حاسما أن المدح نابع من شعور صادق فياض، وإيمان عميق قوي بكل النفحات العظمى والخلال المثلى والخيرية المطلقة لخير رجل عرفته الأرض ، معلنا بذلك أن النص من المديح الديني الذي يجد صداه في كل نفس مؤمنة، وتتقرب به إلى بارئها كل نسمة خيرة وفكرة نيرة تريد أن تنهل من الفضل العميم والخير الجسيم والخلق القويم، كما يشي العنوان عبر لفظته الأواى أن النص شعري عمودي رويه الهمزة، وفي ذلك ما فيه من إيحاء بما يختزنه النص من قيم القصيدة العمودية وملامحها الدلاليو والجمالية، وإذا علمنا أن البوصيري غارق في صوفيته وأحواله الروحية افترضنا أن في النص غير قليل من حرارة الانفعال وعمق التمثل وصدق الشعور وجمال التعبير.
فهم النص
يتركب النص من ثلاث وحدات دلالية أساسية هي :
– إشارة النص إلى منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأنبياء، وإلى علامات مولده وبشائر ظهوره وتبشير الرسل ببعثته.
– عرض معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وسجاياه ومنها تظليل الغمام له في سفره ، وإخبار الذراع المسمومة إياه بما فيها من شر، والتقى والزهد والحياء والخلق الكريم المتزن الوقور في التبسم والمشي والإغفاء، وحسن الصورة، والرحمة والعزم والحزم والعصمة والبأس والصبر ، لا تستخفه الفرحة ولا يستفزه الغضب، ونصاعة القلب وطهارة الثياب والعفة والحلم والعفو والعلم والجود اللامتناهي وغيره مما يخرج عن مألوف الناس ومستطاعهم.
– اعتراف الشاعر بعجزه عن استقصاء سجايا النبي صلى الله عليه وسلم وحصرصفاته في شعره لاستعصائها على التتبع والتقصي.
تحليل النص
– إذا أمعنا النظر في معاني المدح في النص وجدنا أن البوصيري يصدر في مدحه للرسول صلى الله عليه وسلم عن ذات محبة مخلصة متفانية في تعلقها، صادقة أبلغ الصدق في مدحها ، بعبدة كل البعد عن دواعي التكسب والتملق والمجاملة، ومن ثم كان المدح في النص خلاصة تجربة إيمانية متجذرة ومتجددة ، لذلك مجده الشاعر تمجيدا لايسامى، وأسبغ عليه صفات مستخلصة من الطبيعة النبوية بما فيها من طهر وقدسية وعصمة وكمال إنسان ومنة إلهية معجزة لأفضل رسله وأكرم الخلق عنده . وقد توزعت معاني المدح بين الحقل الوصفي الأخلاقي وحقل السيرة المرتبط ببعض المعجزات الحاصلة قبل مولده وبعده، واستثمرت في الحقلين مواد معجمية ذات إحالات مختلفةعلى السلوك والطبيعة والحضارة والتاريخ والعقيدة والمعاني المجردة مما جعل الحقلين الدلالين المتداخلين يستوعبان ثراء دلاليا وفيرا مختزلا في أخبار وصور كثيفة دالة، ومن أجل ذلك وظف النص الأفعال والمصادر بشكل ملفت يحاول القبض على لحظات المدح الديني المفعمة بالكثافة والتعالي.
– وظف البوصيري التشبيه والاستعارة ليرسم صورة فنية لخصال الرسول صلى الله عليه وسلم، صورة تسعى إلى تقريب المعنى وتقويته عبر بعدها القائم على موازاة المعنوي بالمحسوس، فهو في فضله بحر والناس برك صغيرة، والذراع يتكلم فيخبر عما فيه من سم تكنية بالاستعارة عن معجزاته وصدق نبوته، وهو سماء لا تطاولها سماء تصريحا بالاستعارة، وخلقه نسيم ومحياه روضة غناء، وكل هذه التشبيهات البليغة والاستعارات اللطيفة تحاول الإحاطة بخلق عظيم وشأن جليل، تعجز اللغة بطوابعها الإشارية البسيطة والمباشرة عن استيعابه، فتنبري الصورة البيانية بما تفجره من إيحاءات، وتخلقه من عوالم متخيلة لتقريب صورة نبي من البشر ، لكنه بينهم كالياقوت بين الحجر.
– النص بالإضافة إلى بعده العاطفي والجمالي ، ذو بعد تواصلي واضح يعكف الشاعر عبره على تمرير قيمة رسول المسلمين ، والمثل التي جاءت بها ملته الحنيفية السمحاء، من خلال إبرازه باعتباره النموذج الأعلى الذي ينبغي أن يتبع ويقتدى به لتقترب الإنسانية من كمالها وسعادتها، وتخرج من ظلمات الجهل والبغي والشقاء.
– إذا كانت القصيدة تحمل مضمونا مدحيا يقدم بأساليب بلاغية وصور فنية ، فإن هذا المضمون وتلك الأساليب تكتسب مزيدا من شعريتها من خلال موسيقى يوفرها إيقاع بحر الخفيف المركب من تفعيلتين: فاعلاتن تتكرر أربع مرات في البيت، وتتوسطها مستفعلن مرتين، وتخضع التفعيلتان لزحاف يحذف بمقتضاه الحرف الثاني الساكن يدعى الخبن،، ويسمح بتطويع إيقاع البحر وخلق تموج نغمي أبطأ قليلا يتيح الاستغراق الوصفي والتأمل الوجداني والحركة الانفعالية الخاشعة التي تزيدها حركة الردف الطويلة وإشباع الروي الحلقي والتدوير إيغالا في الخشوع.
– اضطلع التكرار في النص ببلاغة خاصة ، وتنوعت تمظهراته بين التكرار التطابقي والاشتقاقي والجناسي، وتكرار كتل صوتية موزعة توزيعا متساويا على مسافة إيقاعية مضبوطة ، مما ضخم الموسيقى الداخلية التي عضدت موسيقى البحر في تأمين انسيابية معاني المدح ، وتوفير لحن رخيم يتغلغل إلى ذات المتلقي حاملا فوق تموجاته أطياف المعاني النبيلة، جاعلا من لحظة التلقي ترنيمة أزلية مترعة بالانفعال المنتشي والسفر الوجداني الناعم، وبصرف النظر عن الوظيفة الإيقاعية للتكرار، فله وظيفة دلالية متحكمة تبئر دلالات المدح ، وتلح عليها وتشحنها في ذهن المتلقي، وتصنع منها رؤية مدحية ذات بعد إيقاني وافر أساسه التسليم بجلال مزايا الممدوح، والاعتقاد الإيماني الراسخ بوجب تمثيلها وتمثلها.
– اقتضى غرض المدح في النص توظيف عدد من الأساليب منها الخبر والاستفهام والنداء والنفي والنهي، ومعظم هذه الأساليب ينزاح عن محتواه القضوي المباشر ، ويوفر قوة إنجازية مرتبطة بالتعجب ( كيف ترقى رقيك الأنبياء ) والتعظيم ( ياسماء ما طاولتها سماء ) والمدح والتبجيل ( كل النص ) ، كما كان الشاعر ينتقل من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب ، ومن الغائب إلى المخاطب تبعا لدرجة الانفعال الذي يشتد فيشارف على الاقتراب من مقام الممدوح والوصول إلى عوالمه المثالية ، ثم يخف فيتدرج إلى مقام المدح المستحضر للصفات والخصال المجسدة في ممدوح مفارق لعالم النقصان البشري ، وكأن الكاف والهاء زاويتين للنظر من قريب وبعيد، أو محاولة للالتحاق واعتراف بالتقصير في التوصيف والتأثر.
تركيب وتقويم
يختزن النص أبعادا متعددة تتساوق فيها قيم دينية وتاريخية وجمالية، وكلها تصطرخ بها قصيدة المدح التي تجسد الطابع المعياري للقصيدة العمودية بكل قسماته التي تجعل النص تحفة فنية خالدة تنطوي على مستويات الاكتمال الفني والقدرة الخلاقة على تأليف الأصوات والتراكيب والصور والدلالات والإيقاعات تأليفا نموذجيا لا يعتوره التقصير ، كما تستحضر القصيدة بوفاء تام القيم الأخلاقية العليا واللحظات التاريخية المثلى بشكل ينصهر داخل لغة يطوعها البوصيري، فيصبح الانفعال تفانيا والمدح فنا راقيا وفلسفة تصدر عن قناعة وتأثر وتواصل وانسجام .

 

ذ. محمد الدواس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *