الدرس اللغوي: الصورة الشعرية: وظائفها عند الإحيائيين

الدرس اللغوي: الصورة الشعرية: وظائفها عند الإحيائيين

السنة الثانية بام آداب وعلوم إنسانية

تقــــديم :
الصورة تشكيل لغوي يكشف الشاعر من خلاله عن تجربته ورؤيته للوجود، ومنها ما يقوم على المشابهة، أو المجاورة . لها وظائف وآثار داخل السياق :
أمثلــــة : قال شوقي في حفل أُقيم لإعانة منكوبي سوريا، بعد هجوم الأسطول الفرنسي على دمشق ـ ص: 57 .
1 ـ سلامٌ منْ صَبا ” بَـــرَدى” أرَقُّ ودمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دِمشـــــــقُ
2 ـ ومعذِرةُ اليراعة والقوافــــــــي جلال الرزْءِ عن وصفِ يَــدقُّ
3 ـ دخلتُك والأصيل له ائتـــــــلاقٌ ووجهُكِ ضاحك القَسمات طلْقُ
4 ـ سماؤُك من حُلى الماضي كتابٌ وأرضُكِ من حُلى التاريـخ رَقُّ
5 ـ رُباعُ الخلد، ويحُكِ ما دهاهــــا أَحقٌّ أنها دَرَسَتْ أحَـــــــــــــقُّ
6 ـ وأيْن دُمى المقاصر من حِجـالِ مُهتَّكةِ وأستارٍ تُشَــــــــــــــــقُّ
7ـ بَرَزْنَ، وفي نواحي الأيك نــــارٌ وخلْفَ الأيك أفراخٌ تــــــــزِقٌّ
8 ـ سَلِي مَنْ راعَ غيدكِ بعد وهـــنِ أبين فؤاده والصخرُ فــــــرْقُ ؟
9 ـ وللمُستعمرين، وإنْ أَلانُـــــــــوا قُلوبٌ كالحجارة لا تــــــــرِقُّ
10 ـ وللحريُّة الحمْراءِ بـــــــــــابٌ بكلِّ يدٍ مُضَرَّجةٍ يُــــــــــــدَقُّ
الشرح اللغوي :
1 ـ صبا : ريح ناعمة / ” بَرَدى ” : نهر قرب دمشق / لا يُكَفْكَفُ : كفكف دمعه : مسحه مرة. 2 ـ اليراعة : واحدة اليراع للقصب والحشرة، والمقصود القلم الذي يُتخذ من القصب. 4 ـ حُلى : جمع حِلية: وهي زينة الشيء، والجميل فيه / رَقُّ : جلد رقيق يُكتب فيه، والصحيفة البيضاء. 5 ـ رُباعُ الخلد: رُباع : معدول من أربعة بالتكرار، أي أربعة أربعة (جاء القوم رُباعَ) / دَرَسَتْ : عفت وذهب أثرها وتقادم عهدها . 6 ـ المقاصر : القُصارة من الدار: مقصورة منها لا يدخلها غير صاحبها ، وهو المعنى الملائم للسياق،لأن الأمر يتعلق بمكان النساء (دمى) المتحجبات الجميلات . يقول تعالى : ” وعندهم قاصرات الطرف عينٌ” أي الخجلة / حِجـالِ : ج. حَجَلة: ستر يُضرب للعروس في جوف البيت / تُشَقُّ : تُكشف ، وتدل على لا أخلاقية المعتدي الذي ينتهك كل الحُرُمات . 7ـ بَرَزْنَ : ظهرن / تـزِقٌّ : تغرد. 8 ـ غيدكِ : غَيِدَ غَيَدا : تمايل وتثنى في لين ونُعومة، فهو أغيد، وهي عيْداء جمع غِيد، والأغيد من النبات الناعم المتثنى، ومن الناس الوسنان المائل العنق، والغادة من النساء الناعمة اللينة / وهـــنِ : بدابة الليل والضعف . 10 ـ مُضَرَّجةٍ : ضرَّج : مبالغة في ضَرَجَ : مضرجة ملطخة بالدماء .

المعنى العام للمقطع :
ـ استهل الشاعر قصيدته بتحية دمشق، واصفا ما حلَّ بها وبأهلها من دمار عجزَ الأدباء عن تصويره . وزادهُ ألما مقارنته حالها قبل العدوان الفرنسي عليها، وبَعدهُ، مُنهيا قصيدته بحكمة مفادها أن الحرية الحمراء تُؤْخذُ ولا تُوهب. ـ اعتمد الشاعر صورا شعرية قد تبنَّتْ مُحيلته فيها نظاما من العلاقات يقوم على المشابهة والمجاورة بين مجموعة من العناصر. فما هي العلاقات القائمة على المشابهة ؟ وما هي دلالتها ؟
1 ـ وظائف الصورة القائمة على المشابهة :
الشرح البلاغي :
أ ـ التشبيه : 4 ـ سماؤُك من حُلى الماضي كتابٌ وأرضُكِ من حُلى التاريـخ رَقُّ
شبه الشاعر دمشق بالكتاب وأرضها بوَرَقِه، وفي هذا إيحاء منه بتاريخها المجيد، وحضارتها العلمية التليدة، ليعكس جانبا مُشرقا من حال دمشق قبل العدوان، رغم أن ذلك لم يشفع لها حتى تجنبَ القصف والدمار.
والشاعر جمع بين واقعتين (دمشق والكتاب) راميا توضيح مكانة دمشق بين أخواتها في العالم برسْم صورة حسية لها .
دلالة الصورة : يتضح أن الشاعر شخص دمشق في صورة إنسان منشرح، طليق الوجه (البيت 3)، دلالة على حالتها قبل الاعتداء؛ إذ كانت تنعم بالأمن والاستقرار. غير أن هذه الحال لم تدم طويلا، إذ سرعان ما نغَّصت صفوها قذائف المدافع التي دمرتْ منازلها. وليصور الشاعر أحوال أهلها والذعر الذي تلبَّسَهم، وقف عند حرمات بيوت دمشق ليصفها في البيتين 6 و 7 ، مستعملا أسلوب الاستعارة .
ب ـ الاستعارة : 6 ـ وأيْن دُمى المقاصر من حِجـالِ مُهتَّكةِ وأستارٍ تُشَــــــــــــــــقُّ
7ـ بَرَزْنَ، وفي نواحي الأيك نــــارٌ وخلْفَ الأيك أفراخٌ تــــــــزِقٌّ
استعار الشاعر للنساء الحِسانِ المحصنات في بيوتهن، وقد انتهكت حُرُماتهن، استعار لفظة الدُّمى المزخرفة. وغايته من ذلك تزيين صورة المشبه / المستعار له (النساء). وليفضَح جُرْمَ المستعمر والعارَ الذي لحِقهُ، علل سبب خروج النساء من بيوتهن إلى الحدائق بكثافة الطلقات النارية التي أفزعتهن وأرهبتْ أطفالهن : أفراخهن. وقد استعار شوقي لفظ الأفراخ للأطفال لكي يشير إلى براءتهم ومسالمتهم وحاجتهم إلى الحماية، لكن آلة العدوان لم ترحمهم .
وظيفة الصورة وأثرها : انظر إلى فعل الاستعارة وأثرها في نفس السامع؛ إذ بالإضافة إلى جمعها بين المتنافرات (النساء / الدمى) و (الأطفال / الأفراخ) كاشفة عما بينهما من مشابهة، فإنها تغدو ذات وظيفة حجاجية؛ إذ يهدف الشاعر إلى رسم صورة مفزعة لما أقدم عليه المعتدي، ولكي يحرك، من خلالها، عواطف ومشاعر المتلقي فيستثيره ويدفعه إلى الفعل والعمل، لا سيما وأن الموقف هو موقف تضامن ومساندةٍ .
البيت 10 : وللحريُّة الحمْراءِ بـــــــــــابٌ بكلِّ يدٍ مُضَرَّجةٍ يُــــــــــــدَقُّ
وقد بلور الشاعر هذا الفعل التوجيهي للمتلقي في البيت العاشر، إذ جسم الحرية، وجعلها بناية حمراء ذات باب لا تطرقها إلا اليد المضرجة بالدم، محولا بذلك غير المرئي من المعاني إلى المحسوس لأن النفس البشرية تنزع إلى المعرفة الحسية، فلا تأنس إلا بالانتقال من الإخبار إلى العَيان والرؤية بالبصر .
استنتاج :
نستنتج من الأمثلة السابقة أن وظائف الصورة القائمة على المشابهة هي :

ـ التوضيح المقرون بهدف إخباري أو تعليمي؛
ـ تأكيد المعنى والمبالغة فيه، مع الإشارة إليه بقليل من اللفظ ؛
ـ الإمتاع والتزيين : حيث تحقق الصورة لذة تنشرح لها النفس فتنعم بسحرها .
ـ التغريب : وهذه اللذة تعظم في النفس إن ارتبطت بالمفارقة الدلالية ؛ إذ كلما كانت أطراف المشابهة متباعدة وأوجد الشاعر ائتلافا في المختلفات، كانت أجمل وأطرب في النفوس ( شعرية المنافرة الدلالية ) ؛
ـ الإقناع : إذ إن الصورة بفعل مراعاتها لهدف المرسل، وحال المخاطب ومقام وسياق التخاطب تغدو وسيلة حجاجية تهدف إلى التأثير والعمل أو الترك أو تعديل الفكر والتصور .

والآن ما هي العلاقات القائمة على المجاورة ؟ وما هي دلالتها ؟
2 ـ وظائف الصورة القائمة على المجاورة هي :
ــ في البيت 2 يعتذر الشاعر عن تقصيره في التعبير عن مصيبة دمشق، ذاكرا الجزء (القافية) وقاصدا الكل (القصيدة). وهذا مجاز مرسل علاقته الجزئية . ولعل قيمة هذه الصورة وسر جمالها يتجلى في الإيجاز والمبالغة المتمثلة في تهويل وتفخيم حجم الفاجعة إلى الحد الذي عجز فيه التشكيل الشعري عن تصويرها .
ــ وفي البيت 10 استعارة، هي شبه الشاعر الحرية بالعمارة، واستعار من العمارة الباب.
والبيت كله كناية عن المقاومة، إذ لا سبيل لنيل الحرية إلا بها. وقيمة هذه الصورة تكمن في الإتيان بالمعنى مصحوبا بدليله في إيجاز وتجسيم .
استنتاج :
نستنتج من الأمثلة السابقة أن وظائف الصورة القائمة على المجاورة هي :

ـ الإيجاز والمبالغة ؛
ـ الإقناع : فالكناية ادعاء مقترن بالبينة المتضمنة في القول الكنائي، لاسيما وأنه مرتبط بالعرف السائد ؛
ـ العدول عن اللغة التقريرية المباشرة بالانتقال بين الأشياء المتجاورة مما يحقق لذة جمالية، خاصة إذا كانت الكناية مبتكرة .
وإذا تمعنت في الصور الشعرية كلها، سواء القائمة على المشابهة أو المجاور، تجد أنها :
ـ جزئية لأنها تعتمد وحدة البيت، فتبدو مفككة،
ـ منضبطة بضابط العقل الذي يكبَحُ جماحَ الخيال، واعتماد العقل جعل فحوى الشعر يقوم على مفاهيم نقدية قديمة مثل : (العبقرية، و الفحولة، و الحكمة )، وأصبح له بعد وصفي، يحاكي فيه الشاعر الأشياء .
ـ تتغيى الوضوح، لاستحضارها المتلقي وانضباطها بضوابط التواصل والإبلاغ .
ـ تكون حسية، إذ تلتقط مظاهر الأشياء، وتقوم على استخدام الأساليب البلاغية القديمة والخيال القريب ومراعاة مبدأ المقاربة في التشبيه، ومناسبة المستعار منه للمستعار له وهما من بنود عمود الشعر .
ـ الصور البيانية، عند الإحيائيين مجرد زخارف وأصباغ تُراد لنفسها، إذ هي صور مستمدة من الذاكرة تكاد تستقل عن أحاسيس الشاعر وأحاسيسه.
مقارنة :
ـ تقوم الصور الكلاسيكية المنتزعة من الطبيعة بدور التوضيح والتزيين، وتعتمد علاقات المقارنة والتشبيه، كما في هذه الصورة لابن الرومـــــــــــــــــــــــــي : ذاتُ صوتٍ تهزه كيف شاءت ××× مثلما هزَّت الصبا غصنَ بانِ
أو قول الشريف الرضي: يا ظبية البان ترعى في خمائله ××× ليَهْنَكِ اليوم إن القلب مرعـــاك .
ـ للطبيعة وجود ثقافي ـ زماني عند القدماء والنهضويين .
ـ يتمثل موقف الإحيائيين من الطبيعة في كونها مكانا تاريخيا، يقيد حرية الإنسان.
ـ تهدف الصورة عند الإحيائيين إلى التوضيح والإفهام والتزيين، وتتسم بالجزئية والخضوع لمنطق العقل ونظرية المحاكاة، و تخلق مسافة بيننا وبين الأشياء .
إن الصور أوصاف أو نسخ للواقع بمسافة هندسية بين الذات والموضوع، لذلك فهي منفصلة عن طبيعة تجربة الشاعر والرؤية المعبر عنها. إنها صورة جاهزة ومستمدة من الذاكرة الشعرية القديمة.
• وترجع هذه الوظائف سواء القائمة على المشابهة أو المجاورة إلى الأسباب التالية:
ـ تغليب المحاكاة على التجربة، والعقل على العاطفة والخيال، وتغليب الحس الجماعي على الحس الفردي / الذات .
ـ نظم الشعر انطلاقا من مفهوم الأغراض: ( مضامين شعرية موروثة ، معاني قديمة …)
ـ الاهتمام بجودة الصياغة وإحياء الصياغة الجاهزة .
ـ النظر إلى الطبيعة نظرة سلفية، أي باعتبارها مكانا تاريخيا تُلتقط صوره من الذاكرة الشعرية للشعراء غالبا . إن لها وجودا ثقافيا زمنيا يعبر عن الانتماء التاريخي للشاعر وليس الانتماء للمكان كما عند المعاصرين.

ذ محمد الدواس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *