ملخص فصول مؤلف الشعريّة العربيّة لأدونيس للأولى باك

ملخص فصول مؤلف الشعريّة العربيّة لأدونيس

للأولى باك

وصف الكتاب:
ظهر كتاب الشعرية العربية في طبعته الأولى في حزيران (يونية) سنة 1985م، عن دار الآداب ببيروت اللبنانية في (112) صفحة من الحجم المتوسط. والكتاب عبارة عن دراسة أدبية نقدية كانت في الأصل محاضرات جامعية ألقيت في الكوليج دو فرانس بباريس في أيار سنة 1984م. وقد صدرت هذه المحاضرات باللغة الفرنسية سنة 1985م عن دار سندباد في باريس. وقد قدم لها أستاذ كرسي الشعر في الكوليج دوفرانس الشاعر الفرنسي إيف بونفوا.
هذا، ويضم الكتاب أربع دراسات قيمة ألا وهي:
أ‌- الشعرية والشفوية الجاهلية؛
ب‌- الشعرية والفضاء القرآني؛
ت‌- الشعرية والفكر؛
ث‌- الشعرية والحداثة.

– قضايا الكتاب الأدبية والنقدية:

الفصل الأول: الشعرية والشفوية الجاهلية:
يرى أدونيس في الفصل الأول بأن الشعر الجاهلي يتميز بخاصية الشفوية، لأنه لم يدون ولم يكتب، بل اعتمد في نقله على الذاكرة والحفظ والرواية من جيل إلى آخر. ومن ثم، فالشعر الجاهلي شفوي قائم على ثقافة صوتية وسماعية. كما نشأ الشعر الجاهلي في بدايته نشيدا مسموعا لا مكتوبا، مرتبطا بالغناء والإنشاد والموسيقى التي كانت تعبر عن ذاتية الشاعر وانفعالاته الوجدانية النابضة المتداخلة مع مشاعر الجماعة.
وبما أن الشعر سماعي في الشعرية الجاهلية، فقد كان الشاعر يولي أهمية كبرى للسامع، إذ كان يحرص على تجويد شعره وعلى تحسين قراءته الإنشادية من أجل التأثير على السامع وجذبه وإشراكه في معاناته وتجربته التي يتداخل فيها ما هو ذاتي وجماعي من خلال تصوير الحياة الجاهلية بكل قسماتها وأفراحها وأتراحها وانتصاراتها الحربية وهزائمها الدامية. وبالتالي، كانت طريقة التعبير أهم من المقول والمضمون؛ لأن الأذن هي التي تحكم على القصيدة وتقومها سلبا أو إيجابا.
وكان الشعر الجاهلي يبلغ وينقل إلى الآخرين عن طريق الإنشاد والذاكرة. ونجاح الشاعر كان مرتبطا بموهبته وقدرته على التبليغ والإنشاد التي تستوجب الصوت وحركة الجسد والموهبة الفطرية في الإفصاح والتبليغ. وقد ارتبط الشعر بالغناء واللحن والموسيقى كما يتجلى واضحا في وحدة الوزن والقافية. وقد أشار أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني إلى صلة الشعر العربي الجاهلي بالغناء والموسيقى.
وعلى مستوى الإلقاء، كان من الشعراء من يلقي قصيدته واقفا أو جالسا أو يتزين باللباس الجميل أو يشغل أثناء الإلقاء صوته العذب وحركة اليدين وأعضاء الجسد كما كانت تفعل الخنساء. وقد سار الشعراء اللاحقون في محاكاة الشعراء الجاهليين السابقين في ارتداء الملابس الأنيقة والجميلة والظهور في أحسن مظهر. ومن الشعراء الذين كانوا يحسنون الإنشاد نستحضر الأعشى الذي لقب بصناجة العرب وعباد العنبري.
وإذا انتقلنا إلى الإيقاع في الشعر الجاهلي، فقد بدأ سجعا ثم أصبح رجزا بشطر واحد أو بشطرين لتكتمل الشفوية الشعرية بالقصيد الذي كان يرتكن إلى الوزن الموحد والقافية التي صارت مقوما جوهريا في الشعر وليس مظهرا زائدا. وقد أضفى إيقاع الوزن والقافية على القصيدة نوعا من التناسق والتنظيم والكمال الصوتي والانفعالي.
هذا، وإن السجع لن يعود مقبولا بعد ذلك في المنظور الإسلامي؛ لأنه يذكر المسلمين بسجع الكهان، وهناك حديث مأثور ينص على ذلك هو: “إياكم وسجع الكهان”.
بيد أن هذه الظاهرة البلاغية البديعية ستظهر من جديد في العصور التالية للعصر الإسلامي الأول في الرسائل والخطب والمقامات والكتابة النثرية. وكان السجع المقوم الأساس في إغناء خاصيتي التغريد والغناء في الشعر القديم.
ومن يتأمل النقد العربي القديم سيجده مبنيا على الشعرية الشفوية الجاهلية كما يبدو ذلك واضحا في حركة التقنين التي مست جانب النحو والعروض وقضية السماع. أي إن النقد العربي تبنى معايير الشعر الجاهلي باعتبارها قواعد ثابتة وأصولا لا ينبغي انتهاكها كما يمثل ذلك عمود الشعر العربي للمرزوقي الذي لم يشر إليه أدونيس بشكل واضح. ولكن هذا التنظير للشعر الذي تم على ضوء الشعر الجاهلي استوجبه الامتزاج الثقافي بين الشعوب المنصهرة في العراق وخاصة في البصرة (الثقافة اليونانية- الثقافة الفارسية- الثقافة الفارسية- الثقافة العربية…). وستدفع هذه المثاقفة العلماء للتفكير في التقعيد والتقنين للحفاظ على هوية الشعر العربي وهوية الشاعر وموسيقى الشعر. ونتج عن هذا أن وضع النحو العربي إعجاما وإعرابا من قبل أبي الأسود الدؤلي ونصر بن عاصم الليثي، ووضعت المعاجم اللغوية (معجم العين) من قبل الخليل بن أحمد الفراهيدي. وكان الهدف من كل ذلك هو الحفاظ على القرآن وتفادي ظاهرة اللحن التي تفشت بسبب الحضارة والمدنية وظهور المولدين والموالي. كما كان الدافع إلى وضع علم العروض على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي هو تمييز أوزان الشعر العربي من الأوزان الشعرية المعروفة آنذاك (الهندية- الفارسية – اليونانية…). وقد قلنا سابقا إن الشعرية القديمة انبنت على السماع والتأثير على المتلقي. ويعني هذا أن الشاعر كان يراعي أفق انتظار السامع والعرف المشترك والذوق الشائع العام. لذلك صارت الصياغة الشعرية أهم من الأفكار والمعاني والمقول. فطريقة الإثبات والتعبير أهم من مدلولات القصيدة؛ لأن المعاني حسب الجاحظ مطروحة في الشوارع والأسواق، وإنما مدار الشعرية هو اللفظ والبيان التعبيري. وأساس هذا الفصل بين اللفظ والمعنى هو الشعر الجاهلي الذي كان يهتم كثيرا بالصياغة والتجويد الشعري من أجل إرضاء السامع وتلبية جاجياته الوجدانية والعقلية والحركية عن طريق التطريب والتأثير الموسيقي الناتج عن صرامة الوزن ووحدة الروي والقافية. وهكذا أصبح الشعر الجاهلي المصدر الأول للشعر العربي قديمه وجديده ومرتكزا للنقد العربي القديم الذي وضع معايير ثابتة الأصول من أجل تقنين الشعر للحفاظ عليه من الخلط واللحن والتهجين. ويطرح أدونيس عدة أسباب قد تكون وراء هذا التقعيد الذي قيد حركية الشعر العربي وطوقها بقيود الثبات والتأصيل مما أثر سلبا على اللغة الشعرية وعفويتها وروح إبداعيتها التخييلية وطبيعة الكتابة الشعرية التي تخالف جذريا خصائص الشعرية الشفوية. ومن هذه الأسباب: الموانع الدينية واللغوية والقومية والرغبة في الحفاظ على الهوية والخصوصية العربية و حماية هوية الشاعر العربي. ومن ثم، فما مقاييس الخليل العروضية إلا مقاييس أتت لتقيد الإبداع الشعري في نظر أدونيس .
وهكذا نستنتج أن النقد العربي القديم كون مقوماته النظرية والتطبيقية اعتمادا على الشعرية الشفوية الجاهلية، وبعد ذلك أصبحت قواعد صارمة ومطلقة يحتكم إليها النقاد في تقويم شعر المحدثين. ونتج عن هذا رؤية واحدة تجاه الشعر وخاصة إلى الشعر الجاهلي، لكن اليوم هناك منظورات نقدية متعددة ومختلفة إلى الشعر الجاهلي. ويعني هذا أن التقنين أساء إلى النقد العربي والشعر العربي معا؛ لأنه لم يصغ إلى الحرية الشعرية والاختلاف الإبداعي. يقول أدونيس: “ونحن اليوم، إذ نقرأ ماضينا الشعري، فليس لكي نرى ما رآه الخليل واللاحقون، وحسب، وإنما لكي نرى ما غاب عنهم ومالم يروه. نحن، اليوم، نقرأ الفراغ أو النقص الذي تركوه. خصوصا أن التقنين والتقعيد يتناقضان مع طبيعة اللغة الشعرية. فهذه اللغة بما هي الإنسان في تفجره واندفاعه واختلافه، تظل في توهج وتجدد، وتغاير، وتظل في حركية وتفجر؛ إنها دائما شكل من أشكال اختراق التقنين والتقعيد. إنها البحث عن الذات، والعودة إليها، لكن عبر هجرة دائمة خارج الذات… إن الخطاب التقعيدي، الواحد، المتواصل، يخفي وراءه صمتا، وغيابا، ونقصا. ونحن اليوم مدعوون إلى ممارسة قراءة لتراثنا النقدي الشعري، تكشف عن الغياب والنقص، وتستنطق الصمت” (ص:31-32).

الفصل الثاني: الشعرية والفضاء القرآني:
إذا كان الخليل بن أحمد الفراهيدي المنظر الأول للشعرية الشفوية الجاهلية على مستوى الإيقاع العروضي، والجاحظ هو المنظر لها على المستوى اللغوي وذلك حينما فصل اللفظ عن الفكر وفضل أمة العرب على سائر الأقوام بفصاحة العربية وبلاغتها الرائعة، فإن القرآن الكريم سينقل الشعرية العربية من الشفوية إلى الكتابة وسيخلق حركة ثقافية وإبداعية لا نظير لها من خلال ما كتب عن القرآن والمقارنات بين النص القرآني والشعر الجاهلي الذي يمثل طريقة العرب في الكتابة الشعرية الأصيلة. كما أن القران ساهم في بلورة الشعر الحداثي وخلق الكتابة الشعرية الصوفية؛ لأنه كان متناصا حقيقيا في تجويد الكتابة وتعميقها واستوائها فنيا ودلاليا ومقصدية.
ومن مظاهر هذه الحركة الثقافية القرآنية ظهور دراسات وكتب تحاول أن تقارن بين القرآن الكريم والشعر الجاهلي على جميع الأصعدة والمستويات اللغوية والتركيبية والبيانية والبلاغية والدلالية لتنتهي في الأخير بأن النص القرآني أفضل بكثير من النص الشعري السابق له؛ لأنه يمثل إعجازا في الفصاحة والبلاغة والتشريع والثقافة على الرغم من أن النظام المعتزلي أعلن أن “نظم القرآن ليس بمعجزة، فإن العباد قادرون على مثله، وعلى ما هو أحسن”(ص41). ومن هذه الكتب نستحضر كتاب أبي عبيدة “مجاز القرآن”، وكتاب “معاني القران” للفراء، وكتاب “البيان والتبيين” للجاحظ، و”مشكل القرآن” لابن قتيبة، و”النكت في إعجاز القرآن” للرماني، و”بيان إعجاز القرآن” للخطابي، و”إعجاز القران” للباقلاني. ولم تكن الدراسات المقارنة ذات بعد ديني فقط، بل قام بعض اللغويون والنقاد بدراسة النظم القرآني والنظم الشعري الموجود في الشعر الجاهلي كما نجد ذلك في جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، ونقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة، ومعاني الشعر للأشنانداني، وكتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري.
وعليه، فقد ساهم القرآن الكريم في قراءتين:
أ- قراءة تستهدف إثبات طريقة العرب في الكتابة وتحديد مواصفاتها القائمة على عمود الشعر العربي، وهذه الطريقة مهما كانت بيانيتها فإن النص القرآني يتفوق عليها ؛
ب- طريقة تهدف إلى الانتقال من الشعرية الشفوية إلى شعرية الكتابة.
وقد أصبحنا بعد ذلك أمام نصين نموذجين: نص قرآني يجمع بين الطرح الديني ويقدم تصورا بيانيا جديدا، ونص شعري جاهلي دون مستوى النص الأول يتسم بالفطرة والبداوة والأصالة والطبع والوضوح.
وينتج عما سبق أن “النص القرآني كان في هاتين القراءتين، وفي جميع الحالات، أساس الحركية الثقافية الإبداعية، في المجتمع العربي الإسلامي، وينبوعها ومدارها. غير أن القراءة الثانية هي التي مهدت، كما أرى، للنقلة من الشفوية الشعرية الجاهلية إلى شعرية الكتابة. وبهذه القراءة، وفي مناخها صاغ الجرجاني مبادئ الشعرية الكتابية، فيما كان يصوغ نظرية النظم القرآني. وكان قد مهد لها بعض النقاد، خصوصا الصولي (توفي سنة 336هـ)”(ص42). وسيفتح القرآن آفاقا رحبة وواسعة أمام الشعراء لابتداع كتابة شعرية جديدة تمتح من البديع القرآني وفصاحة النظم الرباني بلاغة وبيانا وتصويرا (بشار بن برد، ومسلم بن الوليد، وأبو نواس، والمتنبي، وأبو العلاء المعري، وأبو تمام)، وتأسيس نقد حداثي حقيقي ومنهجي مع الصولي الذي يقدم أول دفاع شبه متكامل عن شعرية الكتابة (طريقة أبي تمام) أو الطريقة المحدثة في مقابل طريقة العرب أو الطريقة القديمة. وتقوم الطريقة الحديثة عنده على ابتكار معان جديدة وتحقيق جودة النص الشعري في ذاته والابتعاد عن معيار الأسبقية الزمنية في التقويم الشعر، ولا ننسى كذلك الناقد عبد القاهر الجرجاني صاحب كتابي دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة الذي أسس شعرية النظم والمجاز والغموض.
هذا وسيؤسس الصولي كتابة نقدية تنظر لشعرية جديدة تستند إلى المقومات التالية:
1- الكتابة دون احتذاء نموذج مسبق؛
2- اشتراط الثقافة العميقة الواسعة لكل من الشاعر والناقد؛
3- النظر إلى كل من النص الشعري القديم والنص الشعري المحدث لا على أساس السبق الزمني، بل على أساس الجودة الشعرية الذاتية؛
4- نشوء نظرية جمالية جديدة تعتمد على الغموض والغرابة بدلا من الوضوح والألفة؛
5- إعطاء الأولوية لحركية الإبداع والتجربة وتجاوز ما هو عادي ومشترك ومألوف.
ويعد أبو نواس خير من عبر في نصوصه الشعرية عن أفق الشعرية الجديدة، إلى جانب أبي تمام على مستوى الكتابة الشعرية، وعبد القاهر الجرجاني على مستوى النقد الذي تحدث كثيرا عن النظم المجازي الاستعاري باعتباره جوهر الشعر وأسه الحقيقي.

الفصــل الثالث: الشعرية والـــفكر:
في هذا الفصل، يتعرض الكاتب لثلاث نقط أساسية تتعلق بالنقد الشعري العربي والنظام المعرفي القائم على علوم اللغة(نحو- صرف- بلاغة- فقه- كلام…)، والنظام المعرفي الفلسفي.
لقد اتخذ النقد العربي القديم الشعر الجاهلي نموذجا يقتدى ومعيارا للتقويم ومحاكمة النصوص الإبداعية ولاسيما المحدثة منها. وكل نص شعري لا ينسجم مع هذا التصور الشعري الجاهلي يرفض ويقصى ويهمش؛ لأنه يخالف طريقة العرب في الكتابة.
وهكذا أقصي شعر أبي العلاء المعري وأبي تمام والمتنبي، لأن هؤلاء الشعراء وحدوا بين الصياغة والفكر، وغلبوا الجانب الفلسفي والتأملي في أشعارهم وصارت كتابتهم غير واضحة، وتخالف الشعرية الشفوية القديمة مادامت ترتكن إلى الغموض والإبهام والإغراب والتعمية الرمزية المجردة. كما يلاحظ أيضا في هذا الشعر ظاهرة الفصل بين ماهو فكري وشعري، أي إن الصياغة أهم مما هو فكري على الرغم من أن النقاد والمؤرخين يعتبرون الشعر الجاهلي مصدر المعرفة والحقائق والعلوم والأخبار إلى جانب كونه شعر إنشاد وتطريب وانفعال. ويعني هذا أيضا أن الشعر الجاهلي بدأ غنائيا وفكريا. وبعد ذلك تنوسي هذا المبدأ ليحاكم الشعراء فيما بعد بالشعرية القديمة القائمة على البيان اللفظي والصياغة الفنية الواضحة.
ويذهب النظام المعرفي الذي بني على الدين نفس المذهب حينما فصل بين الشعرية والفكر فصلا قاطعا. فقد كان يدعم التنظير للشفوية الغنائية ويؤكد معاييرها الثابتة وشبه المطلقة. وعلى الرغم من الخطاب الفلسفي الذي أحدث قطيعة ابستمولوجية مع النظام المعرفي الديني والنقدي إلا أنه كان يتواصل معهما عندما فصل هو بدوره بين الشعر والفكر. فهذه الأنظمة المعرفية –إذاً- كانت تنظر إلى ثنائية شعر/ فكر من خلال الاشتقاق اللغوي لكلمة شعر الدالة على الشعور والإحساس والانفعال، أي إن الدلالة الاصطلاحية تناقض الفكر لذلك اعتقد أن الشعر لا يمكن أن يقدم المعرفة ولا أن يعطي الحقائق سوى ما يمكن تسميته بالمتعة الجمالية كما يتيحها الدين ويضع حدودها. وعليه، فلقد استندت الكتابة الشعرية الجديدة إلى ربط الصياغة الشعرية بالفكر في وحدة عضوية مترابطة متكاملة وتفجير المكبوتات والتمرد على كل ما هو مقدس والميل إلى فلسفة التحول والشك بدلا من الثبات وتكريس القيم السائدة المحافظة. أي إن الشعرية الحقيقية هي التي يمثلها أبو نواس في شعره الماجن، والنفري في نصوصه الصوفية، وأبو العلاء المعري في أشعاره التأملية؛ لأن هؤلاء طرحوا أسئلة جديدة على الذات والموضوع قصد الاستكشاف والبحث والاستبصار تتعلق بالدين والمحرمات (الخمر) وفلسفة الموت عن طريق ممارسة الشك والتفكيك والإبداع والتثوير وتفجير اللغة والفكر وآليات اللغة ونقد الأنظمة المعرفية السائدة. ومن ثم، فالصورة الشعرية عند هؤلاء كشف وغرابة واستبطان وتأمل شعري حداثي وطرح للأسئلة أكثر من طرح الأجوبة. كما أن الصورة نقل للمكبوت والمجهول والمهمل وتوسيع التجربة والمغامرة.
وإذا كانت المعرفة الدينية والفلسفية قائمة على الوضوح والألفة والبحث عن الحقائق النهائية اليقينية وتشكيل عالم منغلق ثابت، فإن المعرفة الشعرية في الحقيقة معرفة مجازية تقوم على الغرابة والغموض وخلق عالم منفتح من خلال لغة صوفية عرفانية غيبية تكون فيها اللغة عاجزة عن البوح كما تثور جهرا وبوحا على المقول الديني ومنطوقاته الظاهرية (نص النفري)، أو لغة مجونية متمردة عن الطابو الديني الذي تخضعه للتساؤل والنقد (نص أبي نواس)، أومن خلال لغة تأملية تعتمد على العمق الذهني والتشكيك في الثوابت الدينية وطرحها للشك والريبة والتفكيك (نص أبي العلاء المعري).

الفصل الرابع: الشعرية والحداثة
إذا كانت الحداثة الشعرية قد ظهرت حسب أدونيس في القرن الثامن الميلادي مع أبي نواس والنفري وأبي تمام وأبي حيان التوحيدي فإنها ستتراجع مع سقوط بغداد على أيدي المغول، واشتداد حملات الصليبيين وسيطرة العثمانيين على الحكم في مختلف الأقطار العربية. لكن إشكالية الحداثة والتقدم أعيدت من جديد مع عصر النهضة منذ بداية القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين. وقد نتج عن النقاشات النهضوية اتجاهان: اتجاه أصولي متشبث بالماضي ويرى أن الحداثة تتمثل في علوم اللغة العربية، واتجاه تجاوزي يرى أن الحداثة في تطبيق منجزات ومكتسبات العلمانية الأوربية. ولكن الثقافة السائدة والمهيمنة في المجتمع العربي كانت هي الثقافة الأصولية لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية ودينية، ولاسيما أن السلطة تزكي هذا الاتجاه اللغوي والماضوي، وتحارب كل اتجاه علماني غربي يدعو إلى التغيير والدمقرطة والتحديث والخروج عن نظام السلطة الحاكمة.
ومن يتأمل الحداثة في جوهرها سيجدها هي خروج عن السائد السياسي والأخلاقي والمؤسساتي. أي إنها خروج عن السياسي والفكري وثقافة الخلافة ونفي للقديم النموذجي. إن الحداثة حسب أدونيس ثورة وتساؤل ورفض وتحريك ووعي. والحداثة ليست هي الانغماس في الماضي بطريقة سلفية أصولية، وليست انبهارا بمستجدات الغرب التقنية والعلمية، وإنما هي نقد للتراث والبحث عن الجوانب الحداثية المضيئة فيه وغربلة له والاستفادة من العقل الحداثي ومنهجه. أي إن الحداثة موجودة في تراثنا الشعري عند أبي تمام وأبي نواس في الشعر، والنفري وأبي حيان التوحيدي في التصوف، والجرجاني في النقد. ولكن المثقفين فهموا الحداثة فهما خاطئا مما سبب ذلك في أوهام نجملها فيما يلي:
1- وهم الزمنية الذي يتمثل في ربط الحداثة الشعرية باللحظة الراهنة، أي التعبير عن قضايا معاصرة؛
2- وهم الاختلاف عن القديم، وذلك بتناول ما هو جديد من الأفكار واختيار صيغ مخالفة للصياغة القديمة دون أن تكون شعرية حقيقية نابعة من الذات؛
3- المماثلة مع الغرب، وذلك بتمثله والاقتداء به لتأسيس الحداثة الشعرية. ويعني هذا أن الغرب هو مصدر الحداثة، فلا حداثة خارج الشعر الغربي ومعاييره، أي لا حداثة إلا في التماثل مع الغرب؛
4- التشكيل النثري والمقصود به أن يتمرد الشاعر عن البنية الإيقاعية الخليلية ويتمثل الكتابة النثرية لخلق الحداثة الشعرية، بينما هناك نصوص إيقاعية أكثر حداثة من القصيدة النثرية، والعكس صحيح أيضا؛
5- الاستحداث المضموني كما نجده عند شعراء النهضة كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومعروف الرصافي، وذلك حينما تناولوا المخترعات الجديدة بالوصف كالسيارة والقاطرة والثلاجة والطائرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *