درس النصوص: نص: البيت والوهم لفرحان بلبل للثانية باك علوم وتكنولوجيا

المجزوءة الثالثة: جمالية الفنون الأدبية: المســـــــرح

درس النصوص: نص: البيت والوهم لفرحان بلبل للثانية باك مسالك العلوم والتكنولوجيات

خارج النص
حول المفهوم والسمات
– المسرح فن أدبي قديم ازدهر عند الإغريق الذين عرفوا التراجيديا والكوميديا بشكل ناضج ، ثم تطور المسرح مع الرومان، وازداد تطورا مع الحضارة الغربية الحديثة، فتشكل الفن الدرامي الحديث بفنونه وتياراته. وواكب النقد المسرحي تطور الكتابة المسرحية مميزا فيها بين ثلاثة نصوص: النص المكتوب والنص المعروض ونص الجمهور، والذي يهمنا هنا هي المسرحية المكتوبة باعتبارها منجزا أدبيا جميلا.
– المسرح في الأدب العربي فن طارئ دخل عبر الشام ومصر في بداية الاحتكاك بالحضارة الغربية منتصف القرن التاسع عشر ، ولم تكتب المسرحية العربية بكل مفوماتها الفنية الأصيلة إلا في الثلاثينيات من القرن العشرين للتعبير عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية المشتعلة والموسومة بالكثير من الإحباط والرغبة في الثورة والتجاوز، ثم اتسعت مذاهبه وموضوعاته وتقنياته إلى أن انتهى اليوم إلى أزمة ما اصطلح على توصيفه بموت النص المسرحي، وازدهار مسرح الفرجة والتفاهة والفلكلور والكلام البذيء
– يجمع المسرح بين التأليف المسرحي باعتباره فنا أدبيا والتمثيل المسرحي، وللتأليف آلياته وشروطه التي تميزه عن الشعر والقصة ( لأنه يمكن أن يكون الحوار شعرا ويتضمن بالضرورة حكاية وباقي مكونات القصة ) ، وتقوم المسرحية الحديثة على ثلاثة فصول في الغالب ، كل فصل يتضمن مشاهد حوارية تعكس الصراع الدرامي المتنامي حتى النهاية ، ولغته الحوار بين الشخصيات يؤطره سرد قصير يدعى الإرشادات المسرحية.
سياق النص
لمعت أسماء كبيرة في دنيا المسرح العربي تأليفا وتنظيرا من ضمنهم عبد الكريم برشيد في المغرب ، وفرحان بلبل صاحب النص في سوريا، هذا الأخير ناقد ومؤلف ومخرج مسرحي كبير حاصل على الإجازة في الأدب سنة 1960 . من مسرحياته: “الحفلة دارت في الحارة” و ” العيون ذات الاتساع الضيق” التي منها هذا النص، ولد دراسات نقدية منها: ” المسرح العربي المعاصر في مواجهة الحياة” و ” النص المسرحي : الكلمة والفعل”
إذا أمعنا النظر في عنوان النص وجدناه يتألف من لفظتين عطفت إحداهما على الأخرى عطفا أشركهما في الوظيفة التركيبية والمجال الدلالي، وهما: “البيت” الدال على مكان الاستقرار والسكينة والأمن والدفء والعائلة، وغير ذلك من الدلالات الحميمية التي ترتبط بهذا المكان باعتباره ملاذا ومأوى لصاحبه، ولفظة ” الوهم” الدالة على السراب الخادع وانعدام الثقة وعدم الاطمئنان . وبين اللفظتين علاقة تنافر دلالي ينبئ عن حدث درامي يوشك أن يفجره النص الذي سنشرع في معالجته. فما هو هذا الحدث ؟ وما تداعياته الاجتماعية والنفسية؟ وما نوع الأزمات التي يثيرها؟ وما نوع المقاربة التي يقدمها النص لهذه المعضلة؟
النص مشهد من مسرحية، تدل على ذلك الملاحظة البصرية لشكل النص وهندسته ومشيراته الظاهرة، فهو يبتدئ بإرشاد مسرحي يؤثث فضاء الحدث، وتتوالى بعده مقاطع حوارية على طول الممتد النصي ، لينتهي بإرشاد مسرحي أخر يغلق المشهد ويفتح أفقا رحيبا أمام المتلقي لإكمال الحكاية
فهم النص
يتمفصل النص إلى حزمة من الوحدات المكونة للمشهد نجملها كالآتي:
– بدأ المشهد المسرحي بإرشاد يؤثث فضاء الحدث بمؤثثات دالة على بساطة المكان وبساطة الوضع الاجتماعي للشخصيات المتحاورة وهشاشة الموقفى الفكري والنفسي الناجم عن مأزق الحاجة وصعوبة التضحية
– في بداية الحوار إشارة إلى صمت ساد الغرفة وملأها قلقا وتوجسا وترقبا لخبر مزعج ، ولم يخترق جدار الصمت غير صوت سمير الذي توسل إلى أبيه أن يفصح عما يكتمه من أمر أصبح يشغل تفكير أفراد العائلة المرتابين من صمت غير مفهوم ولا مبرر ، ويخفي دون شك حدثا خطيرا
– تعاني الأسرة مشكلا عويصا حاول الأب أن يخفيه ويعالجه بمفرده ، فلم يستطع إلى ذلك سبيلا ، ولأن المسألة خرجت عن حدود قدرته لا بد لأفراد العائلة أن يتعاونوا ليجدوا حلا ، فالأم تعاني مرضا خطيرا يستدعي تدخلا جراحيا عاجلا ودقيقا ومكلفا مبلغا ماليا باهظا لم يستطع الأب تدبير غير جزء قليل جدا منه، وينزل الخبر كالصاعقة على الولدين والبنت ، ولا حل له إلا أن يبيع الولد البكر أحمد الذي يستعد للزواج شقته لعلاج أمه، ويضحي بمجهود سنوات من الكد وأحلام الارتباط بفتاته وبناء عائلة سعيدة. فهل يستطيع أحمد أن يتحمل العبء وحده؟ وهل من العدل أن يعود إلى الصفر من أجل عملية قد تنجح وقد لا؟ ذلك ما سيكشف عنه الصراع الدرامي في باقي أجزاء المشهد.
– كان موقف سمير وأسماء واضحا، فعلى أحمد أن يبيع شقته لينقذ أمه ، فهو وحده الذي يملك الحل، وقد عابا عليه أنه عرض المساعدة في البداية ، فلما أدرك حجمها نكص على عقبيه، واعتبراه مسؤولا عما يمكن أن يحصل لأمه وهو قادر على إنقاذها، وأنه سيندم ولات حين مندم، حين يدرك أنه فرط في أعظم واجب من أجل نفسه، وأنه لا زال شابا وأمامه عمر آخر وفرص للتعويض، أما أحمد فقد أبدى ممانعة شديدة للحل المقترح، واستهجن تحميله وحده تبعات الأزمة والإجهاز على حياته الاجتماعية المستقبلة التي بناها بشقاء وتعب وحرمان، ، ورمى بحبل الإثم إلى عنق أبيه، لأنه المسؤول المباشر عن وضع أمهم جراء تصرفات طائشة لم يفصح عنها المتن الحواري
– انتهت المسرحية بصراخ أحمد : ” دعني ..دعني ..” ، ويستنتج من ذلك أن أحمد في مأزق وجودي وأخلاقي، بينما الآخرون لم يقدموا شيئا غير الكلام واللوم والعتاب ، مما وضعه بين فكي كماشة من صراع رهيب ، صراع داخلي يدفعه إلى الجنون ، وصراع مع أفراد العائلة الذين ينتظرون منه كل شيء
– ينتهي النص بإرشاد يغلق المشهد تقنيا بعتمة يليها ضوء يسفر عن إنشاد لسمير وأسماء فيه التماس توجيهي من الساردين يعلنان فيه أن الكاتب لا يملك حلا لهذه الوضعية ، وأنه ليس على المتلقي إلا أن يصنع حله الذي يلائمه، ثم يتراجعان لتنطفئ الإضاءة وينزل الستار . إنها نهاية نقلت الأزمة من فضاء الخشبة المحدود إلى فضاء متخيل المتلقين ومتوقعهم وافتراضاتهم وتقديراتهم لملء الفراغ الذي خلفه النص وراءه
تحليل النص
– تجسد شخصيات المسرحية نماذج بشرية من صميم الواقع ، وقد تباينت شخصيات النص من حيث الطبائع النفسية المركز عليها ، وهي طبائع وضعت شخصية أحمد على محك السبر والاختبار والصقل ، فاتضحت هشاشته وبدا مترددا في التضحية بشقته من أجل علاج أمه ، وظهر كأنه المفرط المقصر، أو الشرير بشكل ما، بينمل لم تتبين معادن سمير وأسماء الذين يتحركان بكل أريحية في ادعاء الطيبوبة والحب والإيثار، لأنه ليس لديهما ما يخسرانه ، أما الأب فيبدو مستسلما لا يرى من حل غير بيع شقة ولده وقتل أحلامه، ويخفي هذا الاستسلام في ثناياه العجز والرقة والوداعة والعتاب؛ ليحشر الأب نفسه وولديه الآخرين في زاوية الطيبين مقابل أحمد الذي يعيش الوهم، ويحلم ببيت عامر لم يتسن له بعد التأكد من صلاح عمارته؛ لذلك تبدو شخصيات النص غير جاهزة ولا مسطحة طالما أن الصراع الدرامي في النهاية لم يؤل إلى حل يحسم طبيعتها، ولعل المتلقي يتوقع في النهاية أن يتصرف أحمد بخلاف ما يعكسه الصراع من نشوز ونكوص، وتبدو العلاقة بين أحمد وباقي أفراد العائلة باردة، وبرغم البراعة الحجاجية لسمير وأسماء في ( إقناع ) أحمد ، والتي تغلف المشهد الدرامي بسجال أقرب إلى المناظرة الأخلاقية، فإن المشهد لا يخلو من حدة واتهام متبادلين، وشخصية أحمد الرئيسية تصارع وحيدة بدون عامل مساعد، وتتجه إما إلى العصيان والتصدع، أو الانصياع والانهيار…
– الحوار في المشهد المسرحي تقنية تعكس الصراع الدرامي في أجلى مظاهره، وهو حوار ارتكز أساسا على النسق التبادلي التفاعلي المتعدد، يتولى فيه الحديث بالتناوب أكثر من اثنين ، فيولد شبكة من المواقف والانفعالات تفرز على ضفاف موضوع التضحية من أجل الأسرة تفاصيل تؤزم الصراع حول هذا الموقف. منها: موقف الأب المتذبذب ، ألم يكن أحرى به أن يطرح بيع بيت العائلة في خطوة فدائية قد تكون محفزا ؟ ومنها موقف سمير وأسماء المتحمسين بلا هوادة لبيع بيت أخيهما دون إبداء عبارة أسف أو شفقة أو امتنان، إنه حوار يكشف عن قيم سطحية ملغومة تضحي بأحد أفراد العائلة ، وتدفع به إلى الانتحار الاجتماعي في مجتمع متخلف لا يضمن لمواطنيه التغطية الصحية .. والكاتب ببنائه لهذا النوع من الحوار يبرئ شخصيات لم تقم بجهد يذكرعدا جمع الأب لثلاثة آلاف جنيه، ويورط شخصية مكافحة ويفسقها ، ويحملها وزر حياة شائخة مترهلة قد لا تفيدها التصحية في شيء، وهو ما يكشف عن قيم اجتماعية هجينة تسود المجتمع المصري يما فيه نخبته المثقفة تبرر، عبر تقريظ القيم النبيلة التي ينبغي أن تسود لدى الطبقات الدنيا، تملص الدولة من واجبها ، وتعيد كل انفلات من البؤس عبر كماشة التضحية والتضامن إلى البؤس من جديد
– الإرشادات المشرحية مكون أساسي في المشهد المسرحي ، يؤثث فضاء المسرحية، وله تأثير بالغ على متلقي النص المسرحي يتجلى في ترجمة الانفعالات والروابط الوجدانية من الممثل إلى الجمهور ، وإغناء الإرسالية ، وضمان استمرار التواصل ، وموضعة الحدث في زمان ومكام معينين، وتقديم معلومات عن الشخوصووضعياتها وحركاتها ونبرات الصوت والكلام… ومن هذه الإرشادات :
* ما يهم الديكور: ( غرفة جلوس .. نافذة … مقعد طويل …)
* ما يهم الممثلين: ( صارخا .. بقوة …بغضب..)
* ما يهم المتلقي أو المتفرج: ( سادتي لا تسمحوا للكاتب المسكين …)
* ما يهم المخرج : ( يتراجعان قليلا … تطفأ الإضاءة … يعتم المسرح … ينزل الستار …)
– للزمان والمكان دلالات عميقة لها ارتباط بالشخصيات والحدث. والزمن في النص ليس له محددات واقعية مضبوطة، وكذلك المكان ، ولولا معرفتنا البديهية بكون المسرح عموما، وهذا المشهد بشكل خاص يعالج موضوعا من سماته الآنية والراهنية والمعيش اليومي لقلنا إن النص يفتقر إلى التحديد الزماني والمكاني اللازم. والزمن متداع في النص يختزن ماضيا لا يحفل به كثيرا ، ويبدو أن الأب فرط فيه حتى تضعضعت الأم ووصلت إلى ما وصلت إليه في وقت كان أحمد يشقى من أجل أن يمتلك شقة ترضي فتاة لم تبد رغبة فيه في الحاضر ، والزمن الحاضر في النص يعكس وضعية الصراع والتصدع النفسي لأحمد، والإحباط لباقي أفراد الأسرة في انتظار ما سيؤول إليه وضع أحمد، وهو الزمن المؤطر للحوار والصراع الدرامي ، أما المستقبل فقد رهنه الكاتب بالمتلقي ، وحمله مسؤولية وضع نهاية لهذا الصراع ، والزمن بهذا التحديد يبدو دياكرونيا يبدأ بإعلان الأزمة ثم تفاقمها وينتهي إلى طلب أحمد من محاوره أن يدعه لهمه ، إلا أنه سانكروني في الحقيقة ، زمن نفسي يضخم اللحظة ويمططها ، ويستوعب داخله الماضي والمستقبل . أما المكان فبسيط بساطة الوضع الاجتماعي للشخصيات ، يدور في بيت العائلة المؤثث بديكور بسيط متواضع ( غرفة فيها مقعد وكرسيان من الخيزران وأشياء بسيطة )، والبيت موضوع الحوار وأصل الأزمة لا ملامح له ، ولكنه يفترض أن يكون أرقى ما دام صاحبه قد جهزه لإرضاء سلمى ، وبهوت المكان وتداعي الزمان كلاهما يخدم الصراع الدرامي في النص ، فالمكان مغلق وحيمي يفترض أن يعلن عن تلاحم وانسجام ، لكنه يعلن عن انسداد أفق وضيق فكر ، والزمان مثقل بدلالات الإحباط والتوسل من جهة والتصدع النفسي وتصادم الموضوع والرغبة داخل الذات بشكل عنيف يسحق أي تفكير سليم ورد فعل متزن، على الأقل في الزمن المتاح في المشهد المسرحي.
– تهيمن في النص الجمل الاستجوابية ، وخاصة جمل الاستفهام المنزاحة عن دلالاتها الأصلية ، المترعة بكم انفعالي هائل يعكس الأفعال وردود الأفعال الكلامية المتشنجة ، وكذلك الشأن بالنسبة لجمل الطلب التي بدورها تلامس مقامات خطابية تعكس هذا الغضب والتوجس والحجاج (التقرير) والاحتجاج (الإنكار) ، أما الجمل الخبرية فتقريرية في الغالب ذات وظيفة إقناعية . وتتخلل النص بياضات وفراغات يؤشر عليها بنقط الحذف ، أو الحذف التركيبي نفسه ، وتسمح بإقحام المتلقي في المسرحية بصفته فاعلا مفترضا يمتلك سلطة ملء هذه الفراغات بما يغني المشهد ويضمن وظيفته التواصلية ويؤمن تأثيره اللازم ، ولا يخلو المشهد من بناء حجاجي يدفع نحو تعزيز منطقية الموقف الجدلي لسمير وأسماء على حساب عاطفية الموقف الانفعالي لأحمد ، والموقف الموهم بالمنطقية يستثمر فيه الطرف الأقوى السياق الأخلاقي والعاطفي وسياق فرض الأمر الواقع أكثر من استثماره المتوالية المنطقية المعقولة، غير آبه بالخسائر النفسية والاجتماعية التي تصيب الطرف الآخر.
تركيب وتقويم
المشهد المسرحي خطاب لا ينقل الواقع فحسب، بل يسعى إلى تبليغ رسالة، وهي تحفيز كل من يملك جزءا من حل لمعضلة إنسانية على التضحية بما يملك إذا كانت التضحية من أجل كائن هو رمز التضحية بامتياز ، والنص يعرض هذه الإشكالية في بعدها الاجتماعي والعائلي العميق، ويبقيها مفتوحة للنقاش والتداول ، ويشرك المتلقي في اتخاذ القرار الذي يفترض المنطق والعرف أنه يصب في إطار الإيثار والتضحية . والنص موضوع هذه الإشكالية له خصائص وسمات جمالية وظفت الحوار لخدمة هذا الموضوع، وخلقت صراعا بين شخصيات بينها حساسية عائلية بالغة التعقيد ، واستنفرت المتلقي وأقحمته في البحث عن الحل ، فحققت ما يسمى التمسرح عبر إدماج الفعل المسرحي في الحياة باعتباره أسلوبا في الاكتشاف والتعرف، متكئة على أسئلة استجوابية تتخذ شكل مدخلات إشكالية تختزن داخلها تحليلا للموضوع وصياغة للمحصلة المنطقية، تسندها جمل خبرية تضطلع برهان التفسير والتقرير.

الأستاذ. محمد الدواس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *