النص القرائي: مدرسة الحياة للثالثة إعدادي

مدرسة الحياة

كانت المدرسة عالمي الجميل والمفضل ، ولكنها لم تكن كل العالم ، كانت هناك مطحنة والدي . كنت أتردد عليها لأحمل لأبي طعام غدائه من منزلنا، ولأتأمل فى الرحى الدائرة وهي تتلقى الحنطة حبوبا قاسية وتقذف بها دقيقا ناعما، و لأتطلع إلى المحرك ذى الدولا بين الضخمين وهما يدفعان بالمكبس إلى جوفه ويجتذبانه من ذلك الجوف ، وحدث في إحدى مرات تطلعي ذاك أن علق طرف القنباز الذي كنت أرتديه بالسير الجلدي لمضخمة الماء التي كانت مركبة فوق بئر في جانب المحرك، وهو يدور على دولابه ، فلم أشعر إلا وأنا مرتبط بذلك الدولاب مرتفعا إلى قمته قبل أن ينحدر فيلقيني في قرارة البئر. سارع ميكانيكي المطحنة الأرمني، إلىّ واجتذبني من يدي بقوة قاذفا بي إلى الأرض بجانب فوهة البئر. وأنقذ الله ذلك الصبي القليل الحذر من هلاك محقق.
بعد الدراسة الابتدائية كان علي أن أنتقل إلى حلب لمتابعة تعليمي لأنه لم تكن بقريتي مدرسة ثانوية. حدث بعد ذلك ما اعتبرته المنعطف الكبير في حياتي. أصبت في العطلة الصيفية بمرض ألجأ والدي إلى أن ينقلني إلى حلب ليعالجني أطباؤها، لا أذكر اليوم، وأنا الطبيب، ما كان ذلك المرض، الذي أذكره أن الطبيب السويسري الجنسية الذي تولى العناية بي في مستشفاه أشار على أبي بأن أنقطع عن الالتحاق بالمدرسة عاما كاملا . وبقيت عامين بعده في القرية بناء على رغبة الوالد الذي أرادني على أن أنقطع عن الدراسة لأعينه في إدارة أعماله وأملاكه ، أنا الذي كنت ولده الوحيد آنذاك.
كان ذلك مصيرا قاسيا لي أنا الذي فتحت آفاق تفكيره وألهبت خياله قراءاته الكثيرة والمختلفة . لكن رب ضارة نافعة. كانت هذه الأعوام الثلاثة المتتابعة ضرورية لنضج تفكيري كما أنها ألحقني بمدرسة من نوع آخر، رحت أتلقى المعرفة فيها لا من أفواه المعلمين أو من صفحات الكتب، بل من مخالطة الناس وممارسة الحياة والتعامل المباشر مع أمورها. تلك هي مدرسة العمل إلى جانب والدى وتحت إشرافه . عملت في المطحنة التي كنا نملكها مشرفا عليها وجابيا على غلتها.
أتاح لي ذلك التعرف على أصناف الناس الذين كانوا يتوافدون علينا، نساء ورجالا، من البلدة ومما حولها في المنطقة الواسعة المحيطة بالبلدة، البدو كانوا يأتوننا بقمح مؤونتهم على جمالهم ، والقرويون على الحمير، وسكان البلدة على عرباتهم التي تجرها الخيول.
أصبحت على معرفة بالقبائل نسبا ولهجات كلام ورواية أحداث سالفة وجديدة . هذا في النهار، أما في الليل فقد أتاح لي سن اليفع الذي قاربته أن أكون من رواد مضافة أسرتنا، أجلس منها قريبا من المدخل، مستمعا إلى أحاديث الكهول عن شؤون الأقارب والأباعد، في بلدتنا ومنطقتها وفي مدننا وبلادنا بأسرها. وفي شهر رمضان بصورة خاصة كنت أستمع إلى أحد أعمامي ممن كانوا يحسنون القراءة يتلو على رواد المضافة ، بعد صلاة العشاء كل ليلة ، فصلا من كتاب فتوحات الشام للواقدي . وكان تلامذة مدرستنا الوحيدة في البلدة قد تهيأوا، بإشراف معلميهم، ليقوموا بتمثيل مسرحية عنوانها “وفاء السموءل”، كنت أحضر معهم تداريبها وأشاركهم في إعدادها ، نظمت أنا لهذه المناسبة قصيدة ، كانت أول قصيدة لي صحيحة الوزن وسليمة اللغة على ما أذكر، وعهدت بها إلى أحد الفتيان ليفتتح بها التمثيل مشترطا عليه ألا يذكر اسمى، ولكنه ذكر اسمى بأعلى صوته منوها بناظم القصيدة، فكان لذلك وقع حسن على أقاربي الذين لاموا أبي على حرماني من متابعة الدراسة ، مما اضطره إلى إعادتي إلى حلب لمتابعة مسيرة دراسية ناجحة.

 عبد السلام العجيلي ، أبحرت في كل الموانئ ، مجلة العربي ،عدد 486 ، الكويت ، ماي 1999.


أولا: عتبة القراءة

     1- ملاحظة مؤشرات النص

+ صاحب النص: عبد السلام العجيلي،كاتب سوري ،ولد عام 1919 .اشتهر بكتابة القصة و الرواية.من مؤلفاته(قناديل اشبيلية)  (الخائن) ( الخيل و النساء)…- الليالي والنجوم – باسمة بين الدموع – فارس مدينة القنطرة – في كل واد عصا  – أحاديث الطبيب – مجهولة على الطريق.

* مصدر النص: مقتطف من موضوع “أبحرت في كل الموانئ”.و هذا العنوان يحمل دلالة عميقة تتمثل في كون الكاتب قد جرب و عاش مواقف عديدة و متناقضة في حياته و هو ما عبر عنه بإبحاره في كل الموانئ. ،و لعل عنوان النص يزكي ذلك كما سنرى لاحقا.

* الصورة: مطحنة الحبوب.و هي بمثابة فصل من فصول مدرسة الحياة التي تعلم بها الكاتب بدليل الفقرة الأولى من النص.

* مجال النص: المجال الاجتماعي و الاقتصادي.

* العنوان: مدرسة الحياة

+ تركيبيا: مركب إضافي يتكون من مضاف (مدرسة ) و مضاف إليه (الحياة) .

+ دلاليا: المدرسة هنا لا يقصد بها الفضاء التربوي النظامي ،بل تحمل دلالة أشمل في اقترانها بالحياة ، بمعنى أن هذه الأخيرة فضاء مجرد نتعلم فيه ،و نتأرجح فيه بين النجاح و الفشل كل بقدر ما يكتسب.

* نوعية النص: سيرة ذاتية بدليل بعض المؤشرات مثل ضمير المتكلم والسرد و تطابق السارد و البطل…

2 – بناء فرضية القراءة

انطلاقا من المؤشرات السابقة نفترض ان موضوع النص يتناول سيرة السارد في مدرسة الحياة.

ثانيا : القراءة التوجيهية

1 – قراءة النص.

 2- شرح مستغلقاته:

-الحنطة: الجعة.
– الأرميني : نسبة إلى أرمينيا.
– المضافة: غرفة  خاص لاستقبال الضيوف .

3- صياغة فكرته العامة:

سرد الكاتب أحداثا من سيرته في مرحلة الانتقال من المدرسة النظامية إلى مدرسة الحياة ثم العودة إلى الأولى لاحقا.

التأكد من صحة الفرضية بناء على فهم النص.

ثالثا: القراءة التحليلية

1- المستوى الدالي

– معجم اجتهاد السارد و شغفه بالاطلاع و التعلم:

+ أتطلع إلى المحرك….

+ فتحت آفاق تفكيره…

+ ألهبت خياله…

+ أتلقى المعرفة…

+ التعرف على أصناف الناس…

+ أصبحت على معرفة بالقبائل…………

– دلالة المعجم : يدل هذا المعجم على أن السارد كان منظبطا   و  مجدا في حياته ،و كان أكثر من ذلك شغوفا بالاطلاع و الاستكشاف و التعلم..

2- المستوى الدلالي

أهم الأحداث و الوقائع البارزة في النص:

+ الحدث المؤلم الذي حصل للسارد في مطحنة أبيه.

+ نهاية المشوار الدراسي في المرحلة الابتدائية.

+ مرض السارد و انقطاعه عن الدراسة لعام.

+ استمرار السارد في انقطاعه عن الدراسة لعامين آخرين استجابة لرغبة أبيه.

+ عمل السارد بمطحنة أبيه.

+ مشاركة السارد في إعداد مسرحية (وفاء السموأل) بقصيدة  فريدة.

+ عودة السارد إلى الفصل الدراسي من جديد و نجاحه المستمر في دراسته.

عناصر السيرة الذاتية في النص:

+ ضمير المتكلم ( عالمي – والدي- كنت – أتردد – أبي ….)

+ زمن الماضي: ( كنت- بقيت – حدث – رحت – عملت..) ( لأم تكت – لم أشعر …) ( كنت أتردد – كنت أستمع – كنا نملك- كانوا يتوافدون…)

+ السارد هو نفسه البطل في النص.

+ السرد و الوصف :سرد الأحداث السالفة الذكر .

وصف الأشخاص ( ميكانيكي المطحنة الرميني – الطبيب السوسري الجنسية) و الأمكنة ( المدرسة عالمي الجميل و المفضل..) و الأشياء ( الرحى الدائرة – الممحرك ذي الدولابين الضخمين …).

3- المستوى التداولي

– رسالة النص: الحياة مدرسة لا تقل أهمية من المدرسة النظامية
– مقصدية الرسالة: إبراز أهمية انخراط الفرد في واقعه و محيطه المجتمعي لتعلم و اكتساب ما لا تقدمه المدرسة النظامية .
– قيم النص :حب الاطلاع- الطاعة- الاجتهاد- الصبر- التفاني…

ثالثا:القراءة التركيبية

تمكن السارد من الحفاظ على إيقاع التعلم بالرغم من  انقطاعه عن الدراسة  نتيجة المرض الذي ألم به ، ثم من أجل رغبة أبيه الذي يحتاجه في المطحنة، فقد واصل تعلمه من دروس مدرسة الحياة بنفس الجد و المثابرة و الصبر و التفاني الذي دأب عليه في مدرسته النظامية ،و استحق بفضل شغفه بالاطلاع والتعلم و تفتق مواهبه  أن ينال مكانة خاصة في محيطه.. وما هي إلا ثلاث سنوات حتى عاد السارد ليواصل دراسته بكل نجاح وتفوق.

 

الأستاذ عبد الفتاح الرقاص

3 تعليقات

  1. merci merciiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiii

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *